مقالات

كيف تستخدم تركيا أدواتها للتمدد في العالم العربي؟

لا تزال تركيا تقف عند مفترق طرق الحضارات والقارات، تمثل نقطة توازن جغرافي وسياسي بين الشرق والغرب، وبين العالم العربي وأوروبا.

لكن هذه الميزة، التي وصفها الدكتور جمال حمدان في موسوعته “شخصية مصر” بأنها سلاح ذو حدين، حولتها تركيا الحديثة إلى أداة لتحقيق أحلام توسعية لم تغب عن مشروعها منذ أيام الإمبراطورية العثمانية.

هذه الأطماع التي تمتد عبر قرون، تلبّست اليوم بعباءة جديدة تحت مسمى “العثمانية الجديدة”، مستفيدة من شعارات الإسلام السياسي، واستغلال الفوضى التي عصفت بالمنطقة منذ ما يُعرف بالربيع العربي.

إن المشروع التركي، بقيادة حزب العدالة والتنمية، تجاوز الحدود التقليدية للدبلوماسية، ليصبح مشروعاً توسعياً يعتمد على الأدوات العسكرية، الاقتصادية، والأيديولوجية.

لقد أصبحت تركيا لاعباً رئيساً في مشهد الفوضى الإقليمي، بحيث سعت لإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية بما يخدم طموحاتها، حتى لو كان ذلك على حساب سيادة الدول العربية واستقرارها.

في هذا المقال، نعرض قراءة معمقة للأطماع التركية في المنطقة العربية، معتمدين على التحليل العبقري لجمال حمدان لطبيعة تركيا الجغرافية والتاريخية، وتفكيك أدواتها التوسعية، التي تتراوح بين استخدام الإسلام السياسي والجماعات الإرهابية، وبين التدخل العسكري المباشر وتوظيف الفوضى لتحقيق مصالحها.

الجذور الفكرية والسياسية لـ”العثمانية الجديدة”

بعد سقوط الدولة العثمانية، تبنت تركيا القومية الطورانية كأيديولوجيا تعزز الهوية التركية، لكن مع صعود الإسلام السياسي بقيادة حزب العدالة والتنمية، شهدت تركيا تحولاً نحو استعادة الإرث العثماني.

وظفت هذه الرؤية أيديولوجيات دينية لاستقطاب الجماهير في العالم العربي، وخصوصاً من خلال دعم جماعات الإسلام السياسي، مثل الإخوان المسلمين، التي أصبحت أداة لبسط النفوذ التركي في الدول العربية.

دور تركيا في “الربيع العربي”

مع اندلاع موجة “الثورات العربية” عام 2011، أدركت تركيا أن المنطقة العربية تمر في مرحلة غير مسبوقة من التحولات السياسية والاجتماعية، ورأت في هذه الأحداث فرصة سانحة لتوسيع نفوذها الإقليمي وتعزيز مشروعها العثماني الجديد.

اعتمدت تركيا على أدوات متعددة تراوحت بين الدعم، سياسياً وعسكرياً، واستغلال الجماعات الإسلامية لتعزيز وجودها في الدول التي شهدت اضطرابات.

في مصر: دعمت تركيا جماعة الإخوان المسلمين بصورة قوية، مستغلة فوزهم في الانتخابات كفرصة لترسيخ نفوذها الإقليمي.

رأت أن حكم الإخوان يشكل امتداداً لرؤيتها الإسلاموية للمنطقة. وبعد سقوطهم عام 2013، واصلت أنقرة احتضان قيادات الإخوان وتوفير منصات إعلامية وسياسية لهم، لتستخدمهم ورقة ضغط على الحكومة المصرية.

في ليبيا: أدت تركيا دوراً محورياً في دعم الميليشيات المسلحة التابعة لحكومة الوفاق الوطني، بحيث قدمت مساعدات عسكرية ولوجستية غير مسبوقة، بما في ذلك نشر المرتزقة. استخدمت تركيا ليبيا نقطة ارتكاز لتوسيع نفوذها في شمالي أفريقيا، والسيطرة على موارد النفط والغاز.

في سوريا: كانت سوريا ساحة الصراع الأبرز التي كشفت الأطماع التركية. استغلت أنقرة “الثورة” السورية لتبرير تدخلها العسكري تحت ذريعة محاربة الإرهاب، بينما استهدفت في الأساس الكرد في الشمال السوري. أطلقت عمليات عسكرية، مثل “درع الفرات” و”نبع السلام”، والتي ساهمت في احتلال أجزاء واسعة من سوريا وتغيير التركيبة السكانية لتلك المناطق.

إن الدور التركي في الربيع العربي كان جزءاً من استراتيجية أوسع لتعزيز “العثمانية الجديدة”، بحيث استغلت الفوضى الناجمة عن الثورات لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية واقتصادية، مع تجاهل تام لاستقرار المنطقة وسيادة دولها.

التوسع العسكري التركي

تمثل التدخلات العسكرية أحد الأعمدة الرئيسة التي يرتكز عليها المشروع التوسعي التركي في المنطقة العربية. فمن خلال العمليات العسكرية المباشرة والوجود العسكري طويل الأمد، تسعى تركيا لتعزيز نفوذها وتأمين مصالحها الاقتصادية والسياسية، مستخدمة ذرائع متعددة، مثل محاربة الإرهاب أو حماية أمنها القومي.

هذا التوسع لم يكن فقط مجرد خطوة تكتيكية، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى إعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية للمنطقة، على نحو يخدم مشروع “العثمانية الجديدة”.

في سوريا: نفذت تركيا عمليات عسكرية، مثل “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام”، أدت إلى احتلال مناطق واسعة في شمالي سوريا.

استهدفت هذه العمليات إضعاف الكرد وتأمين وجود عسكري دائم يحقق مصالحها. علاوة على ذلك، سعت لفرض سياسات تعليمية وثقافية تهدف إلى تتريك هذه المناطق.

في العراق: كثفت تركيا وجودها العسكري في شمالي العراق تحت ذريعة ملاحقة حزب العمال الكردستاني، وأنشأت قواعد عسكرية في مناطق استراتيجية على رغم اعتراض الحكومة العراقية. وتُشير التقارير إلى أن هذا الوجود العسكري يهدف إلى تأمين السيطرة على المناطق الغنية بالنفط وتعزيز نفوذها الإقليمي.

توظيف الإسلام السياسي والجماعات الإرهابية

لطالما كان الإسلام السياسي أداة فعالة في يد تركيا لتعزيز نفوذها الإقليمي وتحقيق طموحاتها التوسعية.

استخدمت أنقرة هذه الأيديولوجيات وسيلةً لاختراق الدول العربية، متسترة بشعارات دعم الحريات والديمقراطية، بينما عملت فعلياً على زعزعة استقرار تلك الدول. وبدلاً من تقديم نموذج حقيقي للنهضة، ركزت تركيا على توظيف جماعات الإسلام السياسي، وخصوصاً الإخوان المسلمين، لتحقيق أهدافها الجيوسياسية وتوسيع دائرة نفوذها عبر استغلال الأزمات المحلية والإقليمية.

جماعة الإخوان المسلمين: شكلت الجماعة الحليف الأبرز لتركيا في العالم العربي، بحيث استُخدمت ذراعاً أيديولوجية وذراعاً سياسية لتمرير أجندتها. استفادت تركيا من شبكات الجماعة لخلق حالة من عدم الاستقرار في الدول التي شهدت ثورات الربيع العربي، محولة هذه الفوضى إلى فرص استراتيجية.

التنظيمات الإرهابية: قدمت تركيا دعماً لوجستياً ومالياً إلى تنظيمات، مثل “داعش” و”جبهة النصرة”.

وتشير تقارير متعددة إلى أن الأراضي التركية كانت ممراً رئيساً للمقاتلين الأجانب المتجهين إلى سوريا والعراق. كما أظهرت وثائق مسربة تورط مسؤولين أتراك في تسهيل تجارة النفط مع “داعش”.

الطموحات الاقتصادية

تمثل الطموحات الاقتصادية أحد المحاور الرئيسة في المشروع التوسعي التركي، بحيث تسعى تركيا لاستغلال الموارد الاقتصادية للدول المجاورة لتعزيز نفوذها، إقليمياً ودولياً.

يأتي مشروع “أنبوب الغاز” المقترح، والذي يمر عبر سوريا، ليكون نموذجاً واضحاً لهذه الأطماع، إذ ترى تركيا في هذا المشروع فرصة استراتيجية لتحويل نفسها إلى مركز عالمي لنقل الطاقة بين الشرق والغرب.

هذا المشروع ليس سوى حلقة في سلسلة من التحركات الاقتصادية التي تشمل السيطرة على الموارد الطبيعية، وخصوصاً النفط والغاز في شمالي العراق وشمالي سوريا، ومحاولة الهيمنة على الممرات المائية مثل البحر المتوسط، لضمان نفوذ اقتصادي يوازي طموحاتها العسكرية والسياسية.

إلى جانب الطموحات السياسية والعسكرية، تسعى تركيا للسيطرة على موارد المنطقة، مثل:

النفط والغاز: وخصوصاً في شمالي العراق وشمالي سوريا. تعمل تركيا على استغلال هذه الموارد لتخفيف اعتمادها على الواردات وتأمين موقعها الاقتصاد.

الممرات المائية: ضمان النفوذ على البحر المتوسط لتأمين مشاريعها الاقتصادية وموقعها الاستراتيجي في مبادرة الحزام والطريق الصينية.

يظهر ذلك جلياً في اتفاقياتها مع حكومة الوفاق الليبية لترسيم الحدود البحرية على نحو يخدم مصالحها على حساب الدول الأخرى.

“العثمانية الجديدة” إطاراً توسعياً

تمثل “العثمانية الجديدة” مشروعاً متكاملاً يسعى لإحياء الهيمنة التركية على مناطق كانت تحت السيطرة العثمانية في الماضي.

تستند هذه الرؤية إلى خطاب سياسي يحمل أبعاداً قومية ودينية، عبّر عنه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في مناسبات متعددة، منها تصريحه بأن “حدود تركيا ليست حدوداً مرسومة في الخرائط بل حدود القلب”، في إشارة إلى امتداد النفوذ التركي إلى الدول العربية المجاورة.

يتزامن هذا المشروع مع انتهاء معاهدة لوزان عام 2023، والتي يَعُدّها إردوغان قيداً على طموحات تركيا. وأشار مراراً إلى أن المعاهدة حرمت بلاده من ثرواتها الطبيعية ومن دورها الجيوسياسي في المنطقة، وهو ما يُفسر تصعيد التحركات التركية في الأعوام الأخيرة.

من خلال التوسع العسكري والدعم السياسي للجماعات الإسلامية، تسعى تركيا لترسيخ نفسها لاعباً إقليمياً رئيساً. وأكد إردوغان، في تصريحاته، أن “تركيا لن تقف مكتوفة اليدين أمام التحديات التي تواجه إرثها التاريخي”، الأمر الذي يعكس التزاماً واضحاً بشأن تحقيق رؤية “العثمانية الجديدة” عبر وسائل متعددة، تشمل التدخلات العسكرية، وتوظيف الإسلام السياسي، واستغلال الفوضى الإقليمية لتحقيق مكاسب طويلة الأمد.

تحاول تركيا إعادة صياغة المنطقة العربية على نحو يخدم رؤيتها الاستراتيجية، مستغلة ضعف النظام الإقليمي العربي. وتقوم هذه الرؤية على خلق مناطق نفوذ تركية في سوريا والعراق وليبيا، واستخدام الأدوات الأيديولوجية والعسكرية لتحقيق ذلك. ويسعى النظام التركي لتعزيز وجوده عبر تغيير التوازنات الإقليمية واستغلال الانقسامات بين الدول العربية.

الخاتمة

إن المشروع التركي التوسعي يشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي العربي وسيادة الدول. ولعل ما أشار إليه الدكتور جمال حمدان بشأن تركيا دولة “تعيش على أطراف الآخرين” ينطبق، بصورة دقيقة، على ممارساتها اليوم. إن استغلال تركيا للتنافس بين القوى الدولية، مثل روسيا وأميركا، أتاح لها هامشاً كبيراً لتنفيذ أجندتها الإقليمية، الأمر الذي يضع الدول العربية أمام تحدٍّ كبير يتطلب استجابة حازمة وموحدة.

لا يمكن مواجهة هذه الأطماع إلا عبر وضع استراتيجية عربية شاملة تقوم على تعزيز التعاون بين الدول العربية، أمنياً واقتصادياً، وتقوية التحالفات الإقليمية التي تعيد صياغة دور العرب كقوة موحدة قادرة على حماية مصالحها. كما يتعين على الدول العربية الاستثمار في بناء قدراتها الذاتية لمجابهة التهديدات المتزايدة.

إن التغاضي عن هذه الأطماع قد يؤدي إلى مزيد من زعزعة استقرار المنطقة، بحيث ستستمر تركيا في استغلال الأزمات الداخلية والخارجية لتحقيق مكاسب طويلة الأمد. والتصدي لهذا المشروع التوسعي ليس خياراً بل ضرورة، من أجل المحافظة على استقلال الدول العربية ومستقبل شعوبها، وضمان سيادة مواردها واقتصاداتها، بعيداً عن تدخلات القوى الطامعة.

المصدر: الميادين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى