حين نتحدث عن الرغبة في مشاركة الأحداث والمشاعر مع الآخرين والتفاعل معهم فنحن نتحدث عن طبيعة بشرية ليست سلبية بالضرورة. فالبشر مفطورون على البحث عن الدور في هذه الحياة والشعور بالقيمة انطلاقًا من القيام بهذا الدور. وبالتالي الحصول على الموافقة الـ approve من المحيط الاجتماعي. هذا الشعور بالقيمة يثير بدوره شعورًا طيبًا ولذة خاصة. وككل شيء تبدأ الأمور بأخذ منحى سلبي حين يختل التوازن. وبدل أن يكون الإحسان شرطًا رئيسًا في طبيعة اختيار الدور وكل ما يحيط به، يصبح القيام بالدور والشعور بالموافقة من الآخرين هدفًا بذاته لا وسيلة، يغذي الغرور وتضخم الأنا دون أن يترافق مع تراكم في الإحسان والقيمة المرتبطة بالمُثل العليا.
وبناءً عليه فإن الحديث عن حب الظهور والتسرع في نشر الأخبار من أجل الحصول على سبق أو تفاعل أو أيٍ من سواها من خفايا وغايات الأنفس ليس بالأمر المستجد، وإلا لما كانت الآيات والأحاديث الشريفة زاخرة بالتحذير والنهي عنها. فما الذي تغير إذًا؟
ما تغير حاله في زماننا هو ما أضافته وهيَّأته وسائل التواصل الاجتماعي التي صُممت وطُورت وحُدِّثت باستمرار على أيدي خبراء ومختصين لتلائم رغبات ودوافع النفس البشرية هذه. أي الشعور بالدور والقيمة بمعزل عن الوسيلة. فالمجال مفتوح للحصول عليهما عبر تقديم ما هو حسنٌ ونافع أو حتى من خلال التفاهة والوضاعة، مع ضوابط نسبية موضوعة على طول الخط بما ينسجم مع منظومة قيم الجهات المشغلة والتي تحكمها القيم الأميركية بمعظمها. وتهدف هذه المواءمة التي خلقتها المنصات لتحقق حضورًا أكبر للمستخدمين وإدمانًا أكثر وأرباحًا أكبر لأصحابها.
إضافة لذلك ونتيجة خصائصها سرعت هذه الوسائل عملية النشر والوصول وبالتالي الأثر السلبي لذلك. وضخمت اللذة التي يحصدها مدمنو التسرع في نشر الأخبار. فبدلاً من أن يستمع إليك ويتفاعل معك بضعة أشخاص في البيت أو الحي أو المقهى.. اليوم وخلال لحظات قد يسمعك الملايين ويتفاعلون معك. وبالحد الأدنى يحصد الخبر الدسم الطازج اليوم لدى الحسابات المستضعفة على وسائل التواصل مئات التفاعلات فكيف بتلك المؤثرة؟
ورغم كل جهود التوعية التي رافقت طفرة وسائل التواصل هذه وتزايدت خصوصًا في الأحداث الأخيرة التي شهدتها المنطقة- والتي أثمرت في مواضع معينة- فإننا ما زلنا نرى لاهثًا وراء سبق بمعزل عن تأثيرات هذا السبق، والتي يكون معظمها مشاركًا في الحرب النفسية للعدو.
أن نصادف بعد كل مرة من يتسرع في نعي أحد الشهداء قبل أن يتأكد على الأقل من أن أم الشهيد قد عرفت كما يليق بقلب الأم أن يتلقى خبراً كهذا، هو حالة تردٍّ قيمي للنفس البشرية والوعي المطلوب. آباء وأمهات وأبناء وزوجات وأقارب صُدموا بخبر ارتقاء أعزائهم خلال تصفحهم لوسائل التواصل، والأمثلة أكثر من أن يتسع المجال لذكرها. وهم بغالبيتهم عاشوا حالة من الصدمة قبل استيعاب الموقف. فقد يلجأ الدماغ إلى الإنكار في هكذا حالات ويفتش عن أسباب غير مؤلمة ليحمي الجسد وصاحبه. ما يضع أقرباء الشهيد في حالة صدمة عميقة بسبب تلقيهم الخبر في موقف وحيثية غير متوقعة وغياب أي تمهيد مسبق، هذا فضلًا عن غياب من يساندهم من الأقارب في هذه اللحظة والتي كانوا فيها بمفردهم يتصفحون وسائل التواصل. وريثما يأتي المبلغون يكون الناشرون قد سبقوهم، فقد يتوقف الكوكب عن الدوران إذا تأخر أحدهم عن النعي وتصدير موقف سريع ريثما يتأكد من الخبر ومن معرفة الأهل ومن المصلحة في نشر الخبر. هذا التروي يصبح دهرًا بالنسبة لمدمن. حبة المخدر أمام عينيه ونفسه متأهبة لنشوة السبق، لكنك تطلب منه التروي؟ هذا ضغط كبير.
هذه ليست مبالغة بل توصيف واقعي؛ نحن أمام نوع من الإدمان ينبغي الاعتراف به لمعالجته كما يجب، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي.
هذا الفراغ في الحصول على دور حقيقي قيّم واللهاث المقزز وراء اللّذة والحيثية والتفاعل على حساب آلام الآخرين بات يتطلب جهودًا تربوية متضافرة لمعالجته. ومن أهمها امتلاك دور فعّال غير منفعل ينفع الناس ولا يضرهم سواء في الحياة الواقعية أو على وسائل التواصل أو كليهما معًا. دور يغني عن اللهاث وراء أدوار هشة ضرها أكبر من نفعها بكثير. إذ نادرًا ما نرى سلوكيات مشابهة متكررة ممن لهم دور نافع في المجتمع. فهم إما مشغولون أو مكتفون أو مستغنون.
ولكي نَصف المستوى الذي وصل إليه بعض المدمنين تدريجيًا؛ تخيلوا أن هناك من ينشر مشاهد إطلاق الصواريخ من شرفة منزله مثلًا وهو إن كان يدري فتلك مصيبة وإن كان لا يدري فالمصيبة أعظم أن فعلته هذه قد يكون فيها مقتله ومقتل آخرين. لكن من يكبح جماح العادة مع وجود هذا المشهد المغري؟ غواية مكتملة تلح على كيانه بقوة. لا ينجو منها إلا من رحم ربي من سَكرة اللايكات.
ولا أجد أبلغ وصفًا للحالة من حديث لأمير المؤمنين علي عليه السلام في قوله “الإنسان قتيل عادته” وقوله عليه السلام في موضع آخر “من أعجب بفعله أصيب في عقله”.
تخيلوا أن تصل هذه العادة وهذا الإدمان بالمرء حدًا أنه يتحول لمركز لنشر الأخبار السيئة خلال الأحداث الصعبة دونما حاجة لذلك. فيتطوع ليكون “بومة الواتساب” مع الاعتذار من البومة ومحبيها ومناهضي ربطها بالنحوسة.
هذه الرغبة في النشر بمعزل عن التحقق من صحة الخبر ومن المصلحة من نشره تعبّر عن حالة غير سوية. وعن سلوك إدماني يتعطل العقل والإدراك بفعل الانجرار وراءه.
كم مرة بُذلت جهود التوعية لتشكك في أخبار مجموعات الواتساب التي لا تستند لمصادر موثوقة؟ كم مرة يصل المرء ببعض مدمني النشر إلى سلوك متناقض مكرر ينشرون فيه بشكل متتالٍ الخبر الكاذب، ونفيه، ومنشور توعية حول خطورة التسرع في النشر!!
ولا أحد ينكر بطبيعة الحال أن نشر النفي والتنبيه أفضل من عدمه. لكن بشرط عدم الاستمرار في نشر الأكاذيب. والإشارة هنا هي للسلوك الآلي الأعمى
تمتد هذه العادة لتشمل ما يقال قرب الهواتف وليس عبرها فقط. فالقائمون على وسائل التواصل هذه يعرفون جيدًا عقدة التفاخر بكوننا نعرف، واستثمروها بشكل كبير. فقد تم تجهيز هذه الأجهزة الذكية بأدوات جمع البيانات على مدار الساعة وبأنظمة تحليل سريعة. كل همسة قرب الهاتف وحتى انعدام الهمس قربه يندرج ضمن البيانات.. فكيف بالخبريات والعنتريات: فلان رمى من هنا.. هنا يوجد منصة صواريخ، فلان مسؤول الملف الفلاني، الشباب كانوا عندنا في المنزل.. وما نحب وما نكره وخططنا ومشاريعنا وحركاتنا وسكناتنا.. إلخ.
وقد أشار الإمام علي عليه السلام لذلك فقال: “من عقل الرجل أن لا يتكلم بجميع ما أحاط به علمه.” وعنه عليه السلام: “لا تحدث الناس بكل ما تسمع، فكفى بذلك خرقًا”.
وقد أوصى عليه السلام ابنه الإمام الحسن عليه السلام فقال:
وهذا ليس إلا غيضًا من فيض ما قيل من وصايا حازمة على هذا الصعيد. ولو اكتفينا بنقلها لكفى بها واعظًا ﴿لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد﴾.
فنحن نعيش واقعًا، ربما لم نصل في علوم الأمن على امتداد التاريخ البشري لزمن مثله، يدلي فيه الناس طوعًا وبكل استمتاع بهذا القدر من المعلومات التي فيها هلاكهم وهلاك أعزائهم، لأن أحدهم لا يستطيع أن يلجم زغردة نفسه وهي تنشد مطلقة سهمَها، اشهدوا لي أنني أول من نشر.