عندما أطاح عبد الفتاح السيسي بالرئيس المصري الأسبق محمد مرسي في 3 تموز/يوليو 2013 شنّ الرئيس إردوغان حملة عنيفة ضده وقال عنه ما لا يقال في العرف السياسي والعلاقات الدولية.
وقدّمت تركيا بعد ذلك كلّ أنواع الدعم السياسي والمالي للإخوان المسلمين، وتحوّلت إسطنبول بعدها إلى محطة رئيسية لكلّ أعمالهم السياسة والتجارية والإعلامية.
دفع ذلك إردوغان لإرسال جيشه إلى الدوحة عندما قطعت السعودية والإمارات والبحرين علاقاتها الدبلوماسية مع قطر بعد أن هدّدتها وتوعّدتها ومعها القاهرة باعتبار أنها المموّل الأساسي للإخوان وكلّ الحركات الإسلامية في المنطقة.
وشاء القدر للأمير القطري تميم أن يؤدي دور الوسيط بين الرئيسين السيسي وإردوغان وجمعهما في الدوحة خلال افتتاح مباريات كأس العالم في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2022، وبعد أن صالح بدوره الرئيس السيسي وزعماء دول الخليج بعد قمة “العلا” الخليجية في 5 كانون الثاني/يناير 2021، كنتاج للاتفاقيات الإبراهيمية التي تبنّاها الرئيس ترامب.
وساهمت القمة أيضاً في تحقيق المصالحة بين إردوغان وولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي زار أنقرة في 22 حزيران/يونيو 2022 رداً على الزيارة التي قام بها إردوغان إلى الرياض في 26 نيسان/أبريل 2022.
وسبقت ذلك المصالحة مع محمد بن زايد الذي زار أنقرة في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2021 رداً على الزيارة التي قام بها إردوغان إلى أبو ظبي في 14 شباط/فبراير 2022.
وجاءت زيارة رئيس الكيان الصهيوني هرتسوغ إلى أنقرة في 9 آذار/مارس 2022 ولقاء الرئيس إردوغان مع نتنياهو في 20 أيلول/سبتمبر 2023 في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العام للأمم المتحدة في إطار التحرّكات الإقليمية التي بدأها إردوغان على طريق المصالحة مع خصومه الإقليميين.
ومن دون أن يفكّر إردوغان طيلة الفترة الماضية بالمصالحة مع الرئيس الأسد، على الرغم من أهمية سوريا بالنسبة لتركيا التي تدخّلت في أحداث سوريا التي لها حدود مشتركة مع تركيا أكثر من 900 كم، في الوقت الذي لم تتدخّل فيه سوريا بالشأن الداخلي التركي بأيّ شكل كان.
وشجّع موقف الدول العربية المتناقض حيال الملف السوري، الرئيس إردوغان الذي لبّى كلّ شروط ومطالب الدول التي صالحها، لكنه رفض شروط الرئيس الأسد، وفي مقدّمها سحب القوات التركية من سوريا وإيقاف الدعم العسكري والسياسي لفصائل المعارضة السورية منها والمسلحة.
ومن دون أن تعني كلّ هذه المعطيات أنّ الأمور قد عادت أو ستعود قريباً إلى وضعها الطبيعي في علاقات أنقرة مع الرياض وأبو ظبي والقاهرة، حيث لم تشهد هذه العلاقات أي تطورات مثيرة وعملية طيلة الفترة الماضية بسبب استمرار النهج التقليدي لتركيا حيال الملفات الإقليمية.
فعلى سبيل المثال خلال المؤتمر الصحافي للرئيسين إردوغان والسيسي لم يتطرّق إردوغان، وخلافاً للسيسي، لأيّ من القضايا الشائكة في العلاقات بين البلدين.
مما اضطرّ الرئيس السيسي الذي زار أنقرة بعد زيارة إردوغان إلى القاهرة في 14 شباط/فبراير الماضي خلال المؤتمر الصحافي للحديث عن الوضع في ليبيا والصومال والسودان وسوريا وشرق الأبيض المتوسط.
وهو ما انعكس سلباً على ملامح الرئيس إردوغان وكأنه لم يكن مرتاحاً لذلك حيث الخلافات مستمرة بين الطرفين في مجمل هذه القضايا.
ففي الوقت الذي تقف فيه القاهرة إلى جانب بنغازي لا تتردّد أنقرة في تقديم كلّ أنواع الدعم للفصائل الموجودة في طرابلس التي وقّعت مع تركيا على العديد من الاتفاقيات، وأهمها السماح لها بإقامة قواعد بحرية وجوية وبرية في ليبيا، والتوقيع معها في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2019 على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع تركيا في الأبيض المتوسط، وردّت القاهرة على ذلك بالاتفاقية التي وقّعت عليها مع أثينا في 6 آب/أغسطس 2020.
كما تناقضت المواقف والسياسات المصرية مع تركيا في السودان والصومال بل وحتى مع إثيوبيا. حيث أقامت تركيا العديد من القواعد العسكرية في الصومال التي تناقضات مواقفها هي أيضاً بعد أن فشلت في تحقيق التوازن في علاقاتها مع مصر والإمارات وتركيا بل وحتى أميركا.
في الوقت الذي لم تبالِ أنقرة بكلّ هذه التناقضات واستمرت في بيع مسيّراتها لكلّ أطراف النزاع في أفريقيا، بما في ذلك الصومال وعدوتها إثيوبيا وهي عدو مصر بسبب سياساتها الخاصة ببناء السدود على نهر النيل الأزرق، وهو ما يتفق مع سياسات أنقرة في بناء السدود على الفرات ودجلة رغم اعتراض سوريا والعراق على ذلك. باعتبار أن أنقرة ترى في النهرين المذكورين أنهاراً عابرة للحدود وليس أنهاراً مشتركة، وهو الرأي الذي تدافع عنه أديس أبابا فيما يتعلّق بالنيل.
ويبقى الخلاف بين أنقرة والقاهرة مستمراً فيما يتعلّق بعلاقات مصر بالشطر الجنوبي من قبرص والمعترف به دولياً، والدعم التركي المطلق للشطر الشمالي التركي الذي يوجد فيه الجيش التركي منذ عام 1974 وهو يهدّد ويتوعّد القبارصة اليونانيين فيما يتعلّق بالتنقيب واستخراج الغاز قبالة سواحل الجزيرة.
ومن دون أن تخفي الأوساط الدبلوماسية، التي تستبعد أيّ تغيير استراتيجي في سياسات ومواقف أنقرة خلال المرحلة، استغرابها من كلّ هذا التناقضات في سياساتها مع الدول التي صالحتها بعد أن ساءت علاقتها بها لسنوات.
ويبقى السؤال الأهمّ والذي قد يفسّر كل شيء، وهو لماذا لا يفكّر الرئيس السيسي بزيارة البلد العربي سوريا مع أن رئيسه الأسد أعلن تأييده لوصول السيسي إلى الرئاسة، في الوقت الذي اتخذت فيه أنقرة منذ الدقائق الأولى لذلك موقفاً معادياً وشخصياً من السيسي ومصر عموماً.
وتفسّر كلّ ذلك مواقف الدول العربية وفي مقدّمتها مصر المتناقضة تجاه دمشق والتي شجّعت وتشجّع الرئيس إردوغان للاستمرار في موقفه السلبي من سحب القوات التركية من سوريا.
ويستبعد الكثيرون لهذه القوات الخروج من هناك على الرغم من التصريحات الروسية والتركية الإيجابية حول هذا الموضوع. وبات واضحاً أنه سيبقى معلّقاً إلى أن يجتمع الزعماء العرب ويقولوا للأتراك “اخرجوا من سوريا وجارتها العراق”.
ويبدو أنه أيّ العراق، لم يكن ضمن مباحثات الرئيسين إردوغان والسيسي الذي لو قال له في المؤتمر الصحافي إنه سيتوجّه من هنا إلى دمشق ولاحقاً بغداد لاختلف الموقف التركي تماماً كما اختلف في أزمة مصر مع العدو الصهيوني الذي يهدّد السيسي يومياً.
وحينها سنعود معاً إلى ذكريات التاريخ التي تحدّثنا عن تهديدات أنقرة العضو المؤسس لحلف بغداد لسوريا وحشد قواتها على الحدود معها في شباط/فبراير 1958 بعد الوحدة المصرية ـــــ السورية.
وأعلنت القاهرة بدورها آنذاك عن وقوفها إلى جانب سوريا، عندما كان جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية العربية المتحدة التي لو كانت موجودة الآن لما عشنا كلّ ما عشناه طيلة الـ 60 سنة الماضية، خاصة على صعيد القضية الفلسطينية التي كانت وما زالت وستبقى سبباً لكلّ مشكلات المنطقة، كما هو الحال الآن في غزة حيث يهدّد المجرم نتنياهو مصر وكأنّ التاريخ يكرّر نفسه!