بعد وقف إطلاق النار، استفاق الداخل الإسرائيلي والمستويان الأمني والسياسي على حقيقة، مفادها أن الفشل في تحقيق الأهداف تمت قراءته في الضفة الأخرى على أنه إنجاز للمقاومة يتخطى في مفاعيله مجرد وقف إطلاق النار.
لم يكن الأسبوع الأخير للعدوان الإسرائيلي على لبنان في الصورة النمطية نفسها التي امتدت منذ بدايته، بحيث كانت المقاومة أكثر إصراراً على إظهار مدى فعّالية ضرباتها في الداخل، وركزت فيها على “تل أبيب” وحيفا، بالإضافة إلى المدن الأخرى الممتدة من شرقي الجبهة إلى غربيها، بعمق يمتد إلى 145 كلم.
ومن أجل ذلك، استخدمت المقاومة صواريخ ومسيرات ذات قدرات تدميرية عجز الكيان عن حجب ما خلفته من دمار عن الإعلام، بحيث ظهرت هشاشة قدراته الدفاعية الصاروخية التي تفاخر فيها الكيان الإسرائيلي طوال 14 شهراً، مدّعياً نجاحها في اعتراض معظم الصواريخ التي أطلقها حزب الله، بالإضافة إلى فشل رقابته العسكرية في التغطية على نتائجها وإظهار عدم جدوى مواجهته.
لم تكن المقاومة، طوال فترة الحرب، مهتمة بالسردية الإسرائيلية التي سوّقت عدم فعالية قدراتها، بحيث واظبت على تكرار عمليات الإطلاق التي تجاوز مجموع صواريخها عشرين ألفاً، بحسب الإعلام الإسرائيلي.
فبطبيعة الحال، لم تستند المقاومة إلى ما رشح عن الإعلام الإسرائيلي الموجَّه من الرقابة العسكرية، بحيث إنها كانت تمتلك، من خلال الهدهد ووسائل أخرى، العيون اللازمة لتأكيد نجاح ضرباتها، واكتفت، من خلال إعلامها، بإعلان إصابة أهدافها بدقة، على نحو أمكن تفسيره على أن هذه الضربات ستؤدي حتماً إلى تحقيق الهدف المنشود بردع الكيان ووقف العدوان مهما طالت مدة مكابرته ورفضه الاعتراف بفعالية هذه الضربات.
من ناحية أخرى، كانت الطريقة التي تعاطى فيها المفاوض اللبناني مع الطرح الذي جاء به هوكستين، والذي كان عنوانه استسلام المقاومة، أثبتت ثقته التامة بالمقاومة وقدراتها، بحيث إن الإصرار على الواقع الميداني لم يكن مجرد واقع نظري أو مجرد تمسك بشعارات لا تستند إلى معطيات دقيقة، إذ إن التفاوض مع وسيط أميركي يُظهر إنحيازاً واضحاً إلى الكيان يتطلب ثقة تامة بما تقدمه المقاومة من معلومات عن حجم نشاطها ودقة استهدافاتها.
في هذا الإطار، لم يُظهر المفاوض السياسي اللبناني أي ضعف أو تردد في رفض الشروط الإسرائيلية، ولم يتأثر بالمناورة الأميركية المكشوفة التي حاول خلالها هوكستين الإيحاء باعتكافه في الولايات المتحدة بعد زيارته “تل أبيب”، والتي ظهر خلالها كمن يريد إعطاء فرصة أخيرة للكيان الإسرائيلي من أجل تحقيق ما عجز عنه طوال حملته البرية، التي استمرت أكثر من خمسين يوماً.
في هذا الإطار، لم تكن قراءة المقاومة للمسار التفاوضي الذي حاول الكيان الإسرائيلي بالإضافة إلى الوسيط الأميركي محصورة في حدود وقف إطلاق النار في لبنان بأي ثمن، وإنما تخطته لتؤكد أنها قادرة على تشريح المشروع الإسرائيلي المستقبلي للبنان، وقادرة أيضاً على إجتراح الوسائل اللازمة لإسقاطه.
إذ ظهر نشاطها العسكري في الأيام الأخيرة متحرراً من القواعد التي ثبتتها طوال الفترة التي سبقت، لناحية اعتمادها أسلوباً هجومياً لا يخلو من اللعب على حافة الهاوية التي قد تجعل المعركة مفتوحةً على خيارات فيها من الخطورة، التي من الممكن أن تحولها إلى معركة حياة أو موت بالنسبة إليها.
وعليه، زجّت المقاومة بعض ما يمكن عدّه درة تاج أسلحتها وأظهرت بسالة أسطورية في المعركة البرية، بحيث إنها كانت مصرة على منع دخول جيش الكيان أو تثبيت قواته في أي منطقة عند الحدود مهما كانت التضحيات.
في المقابل، لم يكن الكيان أقل قساوة أو إصراراً على تعاطيه مع الميدان، بحيث رأى أن الإنجازات التكتيكية التي حققها في المرحلة الأولى، والتي كان آخرها اغتيال الأمين العام، سماحة السيد حسن نصر الله، ستفقد قيمتها في حال فشل مناوراته البرية بعد أن ظهر عدم صوابية ادعاءاته بشأن تحييد 80% من قدرات حزب الله الصاروخية الاستراتيجية.
وعليه، أمكن عدّ الفترة، التي لحقت زيارة المبعوث الأميركي للكيان، فرصة أخيرة لتثبيت معطيات ميدانية يمكن تسييلها في الدقائق الأخيرة لصياغة الاتفاق.
استناداً إلى ما سبق، بات من الممكن قراءة الاتفاق، الذي سُوّق على أنه وقف للأعمال العدائية الإسرائيلية على لبنان في مقابل وقف المقاومة عملياتها العسكرية وتطبيق القرار الأممي 1701، على أنه إعتراف إسرائيلي بتكريس معادلات تتخطى توازنات القوة بين المقاومة والكيان، ليُرسي معادلات ذات تأثير إقليمي.
فالإعتراف الإسرائيلي بقدرات المقاومة، وعدم تمكن رئيس الحكومة الإسرائيلية من تحقيق الأهداف ذات السقف المرتفع، والتي سوّقها في بداية عدوانه، والعودة إلى سياقات القرار 1701، أنتجت في الداخل الإسرائيلي شعوراً بمحدودية القدرات التدميرية للجيش الإسرائيلي في تكريس معادلات استراتيجية تضع الكيان في موقع المهيمن إقليمياً.
فبعد وقف إطلاق النار، استفاق الداخل الإسرائيلي والمستويان الأمني والسياسي على حقيقة، مفادها أن الفشل في تحقيق الأهداف تمت قراءته في الضفة الأخرى على أنه إنجاز للمقاومة يتخطى في مفاعيله مجرد وقف إطلاق النار.
فإذا كان رئيس حكومة الكيان برر موافقته على وقف إطلاق النار مع لبنان من أجل تحقيق ثلاثة أهداف، فإن ذلك لن يلغي حقيقة عدم ضمان أمن المستوطنين إذا عادوا، بالإضافة إلى تسليمه الضمني ببقاء التهديد الذي يمثله حزب الله.
مع التأكيد أن هذا التهديد لن يكون محصوراً في القدرة على إطلاق الصواريخ أو تطوير قدرات ردعية دفاعية، وإنما سيتخطاه ليراكم من الخبرة والقوة بما يمكنه في المستقبل، بعد إستخلاص العبر وسد الثغر التي أدت في لحظات كثيرة الى تلقيه ضربات كبيرة، من تثبيت معادلاته الصاروخية وتحقيق ما أعلنه سابقاً من أهداف تتصل باحتلال الجليل وضرب الأسس والمرتكزات للأمن القومي الإسرائيلي، الذي أراد نتنياهو تثبيته من خلال فرضية الهيمنة المباشرة على لبنان ودول المنطقة.
بالنسبة إلى الكيان، لم تكن المعركة الحالية مجرد سلوك دفاعي يستهدف ثني حزب الله عن إسناد غزة وضرب الداخل الإسرائيلي، وإنما كانت معركة مصيرية أراد من خلالها تغيير الواقع اللبناني بمجمله، بحيث يحول المقاومة وبيئتها الحاضنة من قوة ذات تأثير ونفوذ إقليميين إلى مجرد شريك هامشي في المعادلات الداخلية لبلد تم تعريف قوته سابقاً على أنها في ضعفه وفي لجوئه، من أجل حفظ سيادته، إلى ما يسمى الإجماع العربي حصراً.
فقراءة الكيان الإسرائيلي لما يعدّه ملائماً لأمنه القومي تفترض عودة لبنان إلى الحضن العربي، الذي بات مطبّعاً بمجمله، وهو يعني تحوله إلى ضفة غربية تمكن الكيان من ممارسة سلوك المهيمن القادر على الانطلاق من لبنان للانقضاض على سائر دول المحور.
وعليه، يظهر من خلال الإصرار على استمرار النشاط العدواني الإسرائيلي في البر والجو، والإيحاء بامتلاكه الحق في التحرك بحرية، على الأقل حتى انتشار الجيش وصدور قرار بدء عمل اللجنة الدولية للإشراف على تطبيق وقف إطلاق النار، مدى شعور الإسرائيلي بالفشل في تحقيق أهدافه وذهابه مرغماً إلى اتفاق وصفه أفيغدور ليبرمان بأنه رفع إسرائيلي للعلم الابيض في مواجهة حزب الله، وعدّه رئيس مجلس المطلة استسلاماً مخجلاً.