منذ اليوم الأول للحرب على غزة، رفع مجنون إسرائيل شعار الحرب الوجودية.
قرأ بنيامين نتنياهو في عملية «طوفان الأقصى» ما يتجاوز العملية العسكرية المحدودة، وأنها تعني أن أعداء إسرائيل سيسعون إلى إزالتها متى تمكّنوا من ذلك.
إلا أنه ليس الوحيد الذي يفكر هكذا. ما تبيّن خلال عام، هو أن كل إسرائيل تُفكّر بأن ما يجري هو حرب وجودية.
من خاف من أهل الكيان حمل أمتعته وغادر، وسيُغادر آخرون. هؤلاء لا يريدون تحمّل الأثمان، بل يريدون كياناً مستقراً ومزدهراً، لكنهم لا يُريدون خوض المعركة الكاملة. ويُنظر إلى هؤلاء في إسرائيل كمجموعة من الخونة، والانتهازيين الذين فرّوا من أرض المعركة.
كل الروايات الخيالية عما حصل يوم 7 أكتوبر كان هدفها تعبئة الجمهور. هكذا اتجهت غالبية كبيرة جداً من مستوطني الكيان صوب اليمين.
ونمت الأحزاب الدينية القائمة على أساطير. هدفت الحملة الدعائية الى إشعار يهود العالم، وداعمي إسرائيل، بأنها حرب وجودية. صحيح أن أصدقاء الكيان استنفروا لدعمه.
لكن، خلال أسابيع قليلة، أدرك نتنياهو أن الحقيقة لدى الرأي العام في العالم ليست على ذوقه، وأيقن، كما كل قادة إسرائيل، أن أحداً لا يصدقّهم، بعدما جمعت التحركات الاحتجاجية في العالم حشوداً كبيرة ترفض المذبحة القائمة في غزة، ولم تنجح إسرائيل، ولا الحكومات الداعمة لها في العالم، ولا حتى اللوبي اليهودي بكل قوته، في تنظيم أيّ تجمّع شعبي ذي قيمة دعماً لإسرائيل.
وحتى عندما وقف نتنياهو أمام الكونغرس، كان يعرف أن جلّ الحضور كانوا ضيوفه الذين احتلوا المقاعد، كالجمهور الذي تستأجره القنوات للبرامج الشعبية، يُديرهم شخص لا يظهر في الكاميرا.
وقد وافق رئيس المجلس، مايك جونسون، الصهيوني الهوى، وتلميذ المحافظين، على لعب مهمة مدير المسرح. وعندما خطب نتنياهو في الأمم المُتحدة، ورفع صوته عالياً، كان يُخاطب أعضاء وفده المُرافق، ورجال الأمن في القاعة التي خلت من غالبية الحُضور.
مع ذلك، فإن نتنياهو لا يقيم وزنا لكُلّ هذا، فهو يتعامل مع الحقيقة الموجودة داخله، والتي تقول أمراً واحداً: نحن نخوض حرباً وجودية، تتطلّب كل أنواع الجنون، والدماء والأثمان!
هذا صحيح، وصحيح جداً، ولأنه كذلك، كسرت إسرائيل كلّ ما كان يُعرف بقواعد التخطيط والفعل والاشتباك.
ومع أنها دولة قائمة على القتل، فهي قررت التجديد في سياسة القتل عندها، وأن تقتل كلّ من تُقرر هي أنه عدوّ لها: رجل، امرأة، مُقاتل، مدني أعزل، طفل ولد قبل ساعات، طفل يلهو بلعبته، عامل نظافة، مُسعف، طبيب، سائق سيارة، مُزارع، صناعيّ، طالب أو أستاذ جامعي.
كل هؤلاء أهداف طوال الوقت. وفي الطريق، يمكنها تدمير كل شيء يخصّ هؤلاء، من منزل أو مزرعة أو دكان أو مركز تجاري، مدرسة أو مصنع أو مُؤسسة حُكومية، محطة كهرباء أو مياه أو مركز خدمات عامة.
لا وقت للتنظير والحسابات الكبيرة، إنه زمن الفتية الذين حفظوا دروس الآباء عن الحقّ بالمقاومة والقدرة على النصر
لقد وضعت إسرائيل قاعدة جديدة أساسها أنها تخوص حربها الوجودية.
وهي حرب تسمح للعدوّ باعتباره كل ما هو مُقابل مصدراً للتهديد الوجودي. وبهذا المعنى، فإن ما فعلته إسرائيل في غزة هو، باختصار، رسم القاعدة الجديدة لعلاقتها بالآخر: وجودي ثمنه إبادة الآخر.
لكن إسرائيل تفعل ذلك وفق برنامج تحكمه آليات من نوع مُختلف. فهي تُفكر أولاً بقدرتها على تحقيق هذا الهدف، وتدرس ما لديها من إمكانيات تُناسب هذه المعركة، وتدرس ما لدى الطرف الآخر، وتعرف ما الذي تطلبه من حلفاء لها في المنطقة والعالم. وفي كل لحظة تشعر فيها بأن المخاطر كبيرة، ترفع من مُستوى الإجرام، لأن هدف العدوّ تثبيت فكرة في وعي كل العرب تقول إن من يُريد العيش بقربي، يجب أن يكون مُجرّداً من كل شيء يسمح له بقول لا، وخلاف ذلك، لا مكان لأحد هنا.
وهي تتصرف، أن أول الشروط، هو جعل الأمكنة غير صالحة للحياة، ومن يُريد أن يبقى عليه القبول بهذا النمط الجديد من اللاحياة.
هذا ما يعني الحرب الوجودية عند إسرائيل، وهذا ما يجب فهمه بأبسط الصور والقواعد. وبعيداً عن كل نقاش لم يعد له أي اهمية، صار لزاماً علينا العودة إلى الأصول، إلى تلك اللحظة التي كانت فيها بلادنا مُدمرة، وأهلنا مقهورين، وبيوتنا تحتلّها آلة الإجرام، وسلطاتنا يتولّاها عملاء.
يومها، خرج شبان من انصاف المتعلمين، درسوا في منازلهم وفي الأحياء وفي الروايات أن الظلم يُقاوم، وأنه يمكن تدبّر الأمر، متى توفرت الإرادة والصبر والاستعداد للتضحية.
لا وقت بعد اليوم لكُل المحلّلين الغارقين في دراسة السياسات العالمية، ولا وقت للإنصات إلى كل من ينطق بكلام عن حقوق إنسان لا يمكن لأحد ضمانها في هذا العالم. ولا مكان بعد اليوم لكل من يغرق في دراسات وتحليلات جاءت الوقائع القاسية لتمحو أثرها.
هذا النقاش يخصّ أهل المقاومة أولاً وأخيراً، ولا يخصّ الآخرين ممّن ينتظرون كل فرصة لإعلان الاستسلام.
وعلينا إدراك أن قواعد اللعبة تغيّرت، وأن العدوّ قرر العودة إلى البدايات، إلى الحرب الشاملة، الى حيث لا قواعد ولا ضوابط إلا تلك التي تحمي القدرة على إيلام العدوّ.
أما الجمهور، فهو لم يكن يوماً إلا في المكان الصحيح. وفي كل مرحلة، وجد فيها مُخلصون، يرفعون الراية ويقاتلون، كان الجميع يسير خلفهم.
ما يجري اليوم، هو أن إسرائيل سهّلت علينا المهمة حين قالت إنها حرب وجودية، وهذا صحيح، ولذلك، فإن قتالنا معها، ومع كل الداعمين لها، أو المُراهنين عليها، هو أيضاً قتال وجودي… وهو قتال، يعتمد أولاً وأخيراً على الفتية الذين يسكنون دساكر الجنوب وتلاله.
واتّكالنا على المئات الذين ينتقلون يومياً الى هناك، مُنذ بدء العدوان، لأن هؤلاء وحدهم، هم الأتباع الأوفياء لمن باع كلّ شيء من أجل الحق ومن أجل فلسطين!