بعيداً من الجبهات المشتعلة في غزة وجنوب لبنان والبحر الأحمر، تشتعل البادية السورية بمعارك من نوع آخر؛ تحاول خلايا “داعش”، التي تلقت ضربات قاسمة في معارك الميادين والبوكمال في تشرين الثاني/نوفمبر 2017 والباغوز في آذار/مارس 2019، ترتيب صفوفها مستندة إلى تداعيات العدوان الإسرائيلي على غزة واشتعال جبهات الفرات شرق دير الزور بين قوات العشائر و”قسد”.
رقمياً، ثمة ارتفاع مسجل في عدد هجمات خلايا التنظيم إلى 153 هجمة في العراق وسوريا خلال النصف الأول من العام الجاري، بحسب تقارير متقاطعة، تضمنت تلك العمليات مهاجمة أرتال عسكرية ونقاط حراسة وقوافل نفطية واغتيال مدنيين أو الاعتداء عليهم لإجبارهم على دفع الأموال لخلايا التنظيم تحت عناوين مختلفة.
بعض التقارير الحقوقية سجل استشهاد أكثر من 480 شخصاً بين عسكريين ومدنيين، خصوصاً من جامعي الكمأة في البادية السورية، من جراء تلك الاعتداءات، ما يجعل حصيلة النصف الأول من العام الجاري هي الأسوأ لما أوقعته “داعش” من ضحايا وترهيب وتخريب منذ سقوط التنظيم في البادية السورية قبل 7 أعوام.
يتجاوز ذلك “النهوض” العامل الذاتي إلى عمل أمني كبير يجري لإعادة تنظيم صفوف “داعش” مستغلاً اهتمام العالم بأسره بالمذبحة الإسرائيلية في غزة ورد المقاومة عليها.
وتتجاوز تلك التكتيكات والتحركات لعناصر مطاردة في البادية وضمن مساحات مفتوحة قدرات خلايا التنظيم، وقد تكبد ما تكبد من ضربات وملاحقات وتضييق محكم ضمن مناطق سيطرة الدولة السورية على الأقل.
ثمة من يستثمر في تلك المجموعات ضمن انشغال إقليمي وخصوصاً للقوى الفاعلة في البادية السورية بتطورات الحرب، وما تضمنته من ردود على القواعد الأميركية العشرين شرق الفرات، وتلقي غارات وقصف متكرر من تلك القواعد، ويبدو من قراءة المشهد أن تلك الخلايا تمكنت من تفعيل هجمات منظمة على النقاط العسكرية وتفعيل الحضور ضمن مناطق شرق الفرات ضد المدنيين الأمنيين في ريفي دير الزور والرقة خصوصاً.
تتحرك خلايا التنظيم في مجال حيوي واسع يمتد من محيط قاعدة التنف على الحدود السورية- العراقية- الأردنية وحتى سلسلة جبال “البشري” جنوب الرقة، وما بينهما من بادية قاسية تتضمن جنوب دير الزور وشرق تدمر والسخنة، وهي الأراضي التي شكلت مجال تحرك خلايا التنظيم منذ ذروة تطوره عام 2014 في الرقة السورية وحتى اليوم.
وفرت قاعدة التنف منطقة عازلة بعمق يمتد 55 كم محمية بطيران الاستطلاع والوسائط النارية الأميركية، ما أتاح مجالاً لنشاط خلايا التنظيم وأعطاهم فرصة التحرك بعيداً من سلاحي الجو الروسي والسوري، فيما يقوم عناصر التنظيم ممن خبروا البادية السورية بالعمل بعيداً من التجمعات السكانية وفي تضاريس قاسية تتضمن منحدرات وكهوفاً ومرتفعات وعرّة خبرها من تبقى من مسلحي التنظيم، ووجدوا في الأوضاع الأمنية الإقليمية المستجدة فسحة يستغلونها لتصعيد أنشطتهم بما تتضمنه من إعادة الهيكلة والبناء من خلال العمل كتنظيم لا مركزي.
وسعت خلايا التنظيم عملياتها في كل الاتجاهات شرق وغرب الفرات، وهاجمت نقاطاً متقدمة للجيش السوري في عمق البادية، آخرها قبل يومين استهدف نقطة عسكرية في “الشولا” جنوب دير الزور، قتل عناصر التنظيم رعاة أغنام وسرقوا قطعانهم، لكن اللافت أنهم لم يهاجموا مرة واحدة أياً من القواعد الأميركية، وهي متاحة جداً لهم.
كل الهجمات التي تعرضت لها القواعد الأميركية وجنود التحالف مصدرها القوات الرديفة للجيش السوري والفصائل المقاومة، ومعظمها جاء رداً على استفزازات واعتداءات أميركية على الطرف الآخر من نهر الفرات.
معطى آخر هو العلاقة المنفعية المتبادلة بين تلك القواعد التي تبرر واشنطن بقاءها في سوريا لمحاربة خلايا “داعش”، وتدعمها بشكل مباشر أو غير مباشر لتحقيق هدفين أساسيين: الأول لاستنزاف خصومها في الطرف المقابل أي الجيش السوري وحلفائه، والثاني إن القضاء الكلي على “داعش” يعني انتفاء الحاجة للقواعد الأميركية وسحبها نهائياً، وهو ما لم تقرره واشنطن بعد، ما يستدعي إبقاء عامل وجودها!
تعقيدات المشهد لم تمنع استمرار حملات تطهير البادية، على صعوبتها وتكلفتها البشرية والمادية.
تقوم وحدات الجيش السوري عبر وحدات باتت متخصصة بمعارك الصحراء كالفيلق الخامس والدفاع الوطني ولواء القدس بحملات متتالية لملاحقة خلايا التنظيم، حيث أوقفت تمدده في مواقع كثيرة وقضت على بعض عناصره واستهدفت بغطاء جوي روسي مخابئ له ضمن جبال البشري وجبل أبو رجمين شمال شرق تدمر، لكنها لم تقض عليه كلياً في ظل ما يلاقيه التنظيم من إمدادات للإبقاء على حضوره واستدعائه من حين إلى آخر لإرباك السوريين وحلفائهم، وأيضاً لعوامل ذاتية يجيدها التنظيم، تتصل باعتماده على التخفي والابتعاد نهائياً عن المناطق المأهولة، واقتصار وجوده ضمن تجمعات قليلة العدد في شمال شرق تدمر إلى بادية دير الزور والبادية المحيطة بطريق تدمر – دير الزور، وخصوصاً بادية السخنة و”فيضة ابن موينع” جنوب دير الزور.