لا يملّ اللبنانيون من لعبة السلّم والأفعى. وهذه المرة، ليسوا وحدهم من يعيش في عالم السحر والفلك. إسرائيل وقعت في الفخ أيضاً، ويسيطر عليها القلق والحيرة.
على جانبَي الحدود، يتسمّر الناس أمام الشاشات الكبيرة والصغيرة، للاستماع إلى حشد من «المنجّمين» السياسيين، الذين يرفعون الناس إلى أعلى السلّم، ثم لا يلبثون أن يهبطوا بهم إلى أسفل.
وكل ذلك على قاعدة: «هناك احتمالان»… وخذ بعدهما ما شئت من تحليل!ورغم أن كيان الاحتلال اشتهر بقلّة مثيري الصراخ، إلا أنه في عصر بن غفير وسموتريتش وكاتس، بات يعجّ أيضاً بأشباه من عندنا من مهرّجين.
لكن، للأمانة، لا يزال يصعب أن تجد، هناك، من يجرؤ على النظر مباشرة إلى الكاميرا، متجاهلاً المحاور، وصارخاً: اسمعوني قبل أن تفقدوني، أنا لا أحلّل، أنا أعطيكم معلومات أكيدة.
أياً كانت النتيجة، لن يخسر هؤلاء عملهم، وستبقى الشاشات والمنصات تبحث عنهم. وعلى من لا يعجبه الأمر، أن يتفهّم أحوال القائمين على الشاشات أو المنصات، إذ كيف لهم أن يؤمّنوا تغطية الساعات الـ24 من البث المفتوح، ومن أين يأتون بالخبراء الفعليين، وهم منتشرون على الجبهات، أو موجودون في غرف العمليات. لذا فإن التسلية قائمة على قدم وساق، وبات الكل خبيراً وعالماً وعارفاً بخفايا الأمور.
لكنّ المشكلة هنا أن الحديث لا يدور حول موضوع سياسي، بل عن حدث أمني وعسكري وتقني محدّد، تنشط، في الدنيا كلها، مئات أجهزة الاستخبارات وجمع المعلومات، وليس التحليلات، لتتمكّن من رسم تصوّر قريب من الواقع. لذلك، قد يكون مفيداً تكليف صحافي متمرّن أن يتسلى، هو الآخر، بجمع تقديرات وتحليلات هؤلاء حول موعد الردود المرتقبة من إيران ولبنان واليمن ونوعيتها، لنشرها بعد حصول الرد، علماً أن لا هذا ولا غيره سيحرجان أحداً من هؤلاء المنجّمين الذين سيجدون أنفسهم في موقف واحد مع منجّمي ليلة رأس السنة، مردّدين: ألم نتوقّع حصول الرد؟
خلال الحرب السورية، كان أحد قادة المقاومة المشاركين في إدارة العمليات العسكرية جالساً قبالة شاشة كبيرة، قبل أن يرفع صوت التلفزيون لسماع رأي خبير عسكري واستراتيجي – لا أفهم لماذا الإصرار على صفة الاستراتيجي – يقدّم تحليله ومعلوماته حول معركة، صودف أن القائد نفسه، كان مخطّطاً لها ومشرفاً على تنفيذها. وهو لم يتمالك نفسه من الضحك قائلاً: من قال لهؤلاء إن المعارك تسير على هذا النحو!
يومها، سمع القائد في المقاومة اقتراحاً بأن تنظّم المقاومة زيارة لعدد من «الخبراء العسكريين والمحلّلين الاستراتيجيين» إلى سوريا، لإطلاعهم على تفاصيل بعض العمليات، مع شروحات حول طبيعة من يتواجد في الميدان، وبعض التفاصيل عن الأسلحة والتكتيكات المُستخدمة، لكنه تجاهل الطلب.
بعد أسابيع على فتح المقاومة جبهة الإسناد في الجنوب دعماً لغزة، اقتنعت قيادة المقاومة بترتيب لقاء لعدد من «الخبراء العسكريين والاستراتيجيين» مع ضابط كبير يشارك في إدارة الجبهة وعلى اطّلاع على القصة المذكورة أعلاه.
لذلك، أظهر حماسة لعرض تفاصيل تساعد في تقديم سردية مهنية سليمة من جانب داعمي المقاومة، وبذل جهداً في عرض بعض ما لديه، لكنه صُدم بردة فعل بعض زواره، ممن أصرّوا على أن الحروب لا تحصل هكذا…
فقرّر الصمت، وكظم الغيظ، والعودة إلى عمله قبل أن يستشهد، حاملاً معه قصصاً بسيطة عن أفعال هائلة، قصصاً لا تحتاج إلى من يضيف عليها، فلا المبالغة تزيد من قيمتها، ولا التحايل يفيد في ترهيب العدو…
ما يجري اليوم لا يفرض على أحد بذل جهود في المكان الخطأ. ببساطة شديدة، من بيده قرار الرد على العدو، لن يخبر أحداً بما يريد أن يفعله، ولا بشكله ولا بموعده، ومن الأفضل لمن يعتبر نفسه معنياً بنجاح الرد، أن يهدأ قليلاً، ويعيرنا سكوته ولو لبعض الوقت!