“كسِّر قيود اللي كبّلت إيديك”… أغنية يعرفها مناصرو التيار الوطني الحر عن ظهر قلب، كونها عائدة إلى مرحلة مع بعد ال2005 وعودة العماد ميشال عون إلى لبنان. الأحد، بعد زيارة رئيس التيار النائب جبران باسيل إلى عكار، مع كل الحضور الحاشد وخاصة في البلدات الإسلامية تحديداً، بات يمكن التأكيد أن “التيار” “كسَّر” كل الجدران التي حاولت حصرَه في البيئة المسيحية، والأهم أن مفاعيل “17 تشرين” في توجهها نحو عهد الرئيس عون حصراً، باتت من الماضي. أساساً هذا ما سمعه باسيل والوفد المرافق تحديداً في وادي خالد…
في الصورة الشاملة، عبَّرت خطابات باسيل وكلماته من منيارة إلى عكار العتيقة فمشتى حمود وصولاً إلى تل عباس، عن تحسُّس “التيار” خطورة المرحلة الراهنة من زاوية التهديدات الإسرائيلية. ذلك أنَّ باسيل رفع من درجة التضامن مع المقاومة في وجه أي اعتداء إسرائيلي، ومشدداً على أنَّ ما تتوهم أنها ستحصده في لبنان سيضاف إلى سلسلة هزائمها على المستوى الإستراتيجي. وفي السياق العام لمجريات الحرب في الجنوب، تكتسب هذه النبرة أهمية مضاعفة، ولو أنَّ باسيل لم يحجب الخلاف الكبير مع حزب الله حول مسألة بناء الدولة.
وبطبيعة الحال في ما ترمُز إليه عكار من بُعد جغرافي وحدودي، أن يعيد باسيل الأهمية إلى ملف اللامركزية فيما يمكن أن تحققه من تنمية، وإلى ملف النزوح وغض النظر عن تسيب الحدود والتسبب بهجرة مقابلة لدى المجتمع اللبناني.
وإذا كانت الرسائل السياسية لجهة العناوين اللبنانية بالغة الوضوح، فإنَّ البعد الآخر لجهة موقع “التيار الوطني الحر وحركته وتفاعله مع المجتمع اللبناني عموماً والعكاري خصوصاً، أظهرَ دلالات بالغة الأهمية.
فما عبّر عنه باسيل لجهة تأكيد وطنية “التيار”، كان حاضراً في الحضور الإسلامي الواسع، بشقيه السُنّي والعلوي، بمن في ذلك محازبو “التيار” المسلمون. هذه الوطنية يمكن وصفها ب”الواقعية”، ذلك أن باسيل في خطابه العكاري، و”التيار” لا ينفيان أكثرية المسيحيين في البنية التنظيمية للتيار، وحتى بالتأكيد التمسك بالدور المسيحي السياسي في النظام، لكن ذلك لا يلغي الحضور الطبيعي للمسلمين في “التيار” منذ تأسيسه، انطلاقاً من أن معظم أهدافه وحركته لا تطال المسيحيين حصراً. كما أن مرونته وعدم تشدده، يبدوان أكثر فعالية من أحزابٍ عقائدية ذات بنية إيديولوجية صلبة، لكن صرامتها لم توصلها إلى تحقيق أهدافها في كسر الحواجز الطائفية بين اللبنانيين في شكلٍ عملي، خارج إطارها الحزبي.
تجسيداً لذلك، كانت الصور والإستقبالات لباسيل في عكار، من عكار العتيقة إلى وادي خالد فمشتى حمود وصولاً إلى الحيصة و تل عباس الشرقي، أفصح من الكلام، مع جهد تقاطعت فيه هيئة قضاء “التيار” مع نواب “التيار” وكوادره المتنوعة. ففي عكار العتيقة التي تعبّر عن انتماءات للمؤسسة العسكرية، وإلى أفكار يسارية وعروبية وتسجل نسبة تعليم عالية، كان وجود عائلات خليل و الشعار وناظر وملحم وحمود وغيرها يظهر حجم التفاعل مع خطاب “التيار” وتقبله إسلامياً. وفي وقت أظهرت مشتى حمود أيضاً قدرة شباب “التيار” على التنظيم والحشد، أتت المفاجأة من البيرة حيث دخل باسيل تحت أصوات الهتافات وعبارات لترحيب في حضور أكثر من ألف شخص.
وفي ثانوية باسل الأسد، أظهر باسيل قدرة “التيار” على احتضان الفئات المهمشة، ومن بينها الطائفة العلوية، نافذاً مما كشفه له الرئيس السوري بشار الأسد حول قدرة “التيار” على اختيار المرشح العلوي الذي كانت تؤثر فيه سوريا تاريخياً، إلى واقع العلاقات اللبنانية – السورية وكيفية تكريسها ضمن إطار من الندية والإحترام. وقد أبرز عضو المجلس السياسي في “التيار” حيدر عيسى مجدداً قدرته على التنظيم والحشد لاستقبال يليق برئيس “التيار”، الذي سارع لشكره علناً.
هذه الصورة “التيارية” في عكار، رسمت صورة للتيار الوطني الحر مختلفة عما حاول محركو انتفاضة “17 تشرين” أن يصلوا إليه، وهو ضرب قدرته على الحركة والتأثير السياسي، لا بل أن هذه الزيارة أفصحت عن واقع جديد يكرس فعلاً دفن مفاعيل تلك الأحداث منذ أكثر من أربعة أعوام. بات يمكن التأكيد مجدداً أن عكار أكدت البعد الوطني للتيار في تمثيله وحضوره، إضافةً إلى تقبل خطابه التفاهمي والتصالحي، في الوقت الذي يقبع فيه رئيس “القوات” سمير جعجع في “معتقل” يرسمه لنفسه ذاتياً. فلا قدرة على الحركة والتفاعل، في موازاة الرفض المستمر والعبثي لأي حوار أو لقاء أو مبادرة. من هنا، يمكن تسجيل تقدم استراتيجي للتيار على المدى البعيد، في الوقت الذي يكسب فيه جعجع تكتيكياً بقدرته التنظيمية والدعائية، لكن مع اصطدام بحائط الواقع السياسية والإقليمية.
على أنَّ ما قيل في وادي خالد لجبران باسيل، كان الأوضح والأكثر وقعاً. فالحضور أقرّوا له علناً أن ما سُمي تعسفاً ب”ثورة” في “17 تشرين”، استهدف الرئيس ميشال عون و”التيار” لضرب عهده وما يمثل، لكن كل ذلك لم يؤتِ ثماره فصمد “التيار” وكانت الخسارة على جميع اللبنانيين.
إنها الخلاصة العكارية للواقع اللبناني للتيار. ومن هنا ينطلق مع باسيل لتحركاته القادمة…