يخيم على أجواء لبنان شبح قاتم لا يثير الضجيج، ولكنه يفتك بصحة سكانه ويدمر بيئته بصمت، إنه تلوث الهواء المتفاقم الذي بات يشكل هاجسًا يوميًا يضاف إلى سلسلة التحديات التي يرزح تحت وطأتها هذا البلد العربي الجميل.
شهد عام 2023 ارتفاعًا مهولًا في مستويات الملوثات، لتصل إلى معدلات تنذر بالخطر، وتضع صحة الإنسان والحيوان والبيئة على المحك.
ولم يأتِ هذا التفاقم المفزع لظاهرة تلوث الهواء من فراغ، بل هو نتيجة تراكم لعوامل عدة ومتشابكة، وبالطبع لا أحد من المعنيين يحرّك ساكنًا!
تشهد مستويات الملوثات في لبنان ارتفاعًا مقلقًا وبخاصة في العاصمة بيروت التي يلفّها الضباب الدخاني المميت، خاصةً مع ازدياد الاعتماد على مولدات الكهرباء التي تعمل بالديزل، وحرائق الغابات، وانتشار ظاهرة حرق النفايات.
ففي تشرين الثاني، أثبتت الدراسات أن نسبة انبعاثات المولدات الكهربائية المنتشرة في لبنان بشكل كثيف وعشوائي، ارتفعت بنسبة 300% وهي مسؤولة بشكل مباشر عن تلوث الهواء وتحديدًا انبعاثات أوكسيد الكربون، ثاني أوكسيد النيتروجين والكبريت، وجزيئيات الديزل.
وفي حديث خاص لـ “الديار”، كشف الخبير البيئي البروفيسور ضومط كامل، أن الوضع البيئي مأسوي جدا في بيروت، والمرحلة المقبلة ستكون أصعب وأخطر، بما أن نسب التلوث إلى تزايد وما من حلول تلوح في الأفق.
ففي المرحلة المقبلة أي مع قدوم فصل الصيف، نحن مقبلون على فترة لا تتحرك فيها الكتل الهوائية بسرعة، مما يعني أن هذه الكتل الهوائية ستتشبّع بملوثات هوائية خطرة جداً وبخاصة في ظل انتشار دخان المصانع والديزل.
وبحسب “كامل”، إنّ النطاق الجغرافي الأكثر تلوثاً في لبنان هو ساحل المتن خلف مطمر أو جبل النفايات، الذي سيتسبب بكتلة هوائية مشبّعة بأشد الغازات الملوّثة، والبكتيريا.
كما شدد على خطورة حرق النفايات وبخاصة في فترات الليل، التي تنبعث منها مادة الديوكسين الخطرة جداً وتتطاير في الجو.
قنبلة موقوتة على صحة الإنسان والبيئة
لا يقتصر تأثير تلوث الهواء في لبنان على إغشائها بطبقة من الضباب الدخاني الكثيف فحسب، بل يمتد ليشمل صحة الإنسان والبيئة بشكل مباشر، تاركاً وراءه ندبات عميقة على مختلف الأصعدة، أبرزها:
– الأمراض التنفسية
– ارتفاع معدلات الربو: يُعدّ الربو من أكثر الأمراض التنفسية شيوعًا في لبنان، خاصةً بين الأطفال، وتشير الإحصائيات إلى ازدياد ملحوظ في عدد الحالات خلال السنوات الأخيرة.
– التهابات الشعب الهوائية والرئتين: تعاني شرائح واسعة من المجتمع اللبناني من أمراض تنفسية مزمنة، مثل التهاب الشعب الهوائية والتهاب الرئتين، وتُعدّ ملوثات الهواء من أهم العوامل المسببة لهذه الالتهابات.
– زيادة حالات الوفاة: تُشير الدراسات إلى وجود صلة وثيقة بين تلوث الهواء وارتفاع معدلات الوفيات بسبب الأمراض التنفسية، خاصةً في صفوف كبار السن والأطفال.
– أمراض القلب
– ارتفاع ضغط الدم: تُعدّ ملوثات الهواء من العوامل المؤثرة في ارتفاع ضغط الدم، مما يزيد من مخاطر الإصابة بأمراض القلب.
– النوبات القلبية والسكتة الدماغية: تشير الدراسات إلى وجود صلة وثيقة بين تلوث الهواء وارتفاع معدلات النوبات القلبية والسكتة الدماغية.
– أمراض القلب والشرايين: تُعدّ ملوثات الهواء من العوامل المؤثرة في تصلب الشرايين، مما يزيد من مخاطر الإصابة بأمراض القلب.
السرطان
– سرطان الرئة: يُعدّ سرطان الرئة من أكثر أنواع السرطان شيوعًا في لبنان، وتشير الدراسات إلى وجود صلة وثيقة بين تلوث الهواء وارتفاع معدلات الإصابة به.
– أنواع أخرى من السرطان: تشير بعض الدراسات إلى وجود صلة محتملة بين تلوث الهواء وبعض أنواع السرطان الأخرى، مثل سرطان الثدي وسرطان الدم.
تأثيرات بيئية
– تلوث التربة: تؤثّر ملوثات الهواء في خصوبة التربة، مما يُقلّل من الإنتاج الزراعي.
– تلوث المياه: تُؤثّر ملوثات الهواء في جودة المياه، مما يهدد سلامة البيئة المائية.
– تلوث الغابات والنباتات: تؤثّر ملوثات الهواء على صحة الغابات والنباتات، مما يهدد التنوع البيولوجي.
مواجهة الأزمة: مسؤولية الجميع
وفي هذا الصدد، ناشد الخبير البيئي الجهات المعنية التحرّك في أسرع وقت، حيث حثّ الحكومة على سنّ قوانين وتشريعات صارمة للحدّ من تلوث الهواء، تشجيع استخدام مصادر الطاقة النظيفة، وتخصيص ميزانيات كافية لمكافحة هذه الظاهرة.
وشدد على نشر الوعي حول مخاطر تلوث الهواء وطرق الوقاية منه، ودعم الجهود الرامية إلى الحدّ من هذه الظاهرة. هذا ولفت إلى أهمية اعتماد ممارسات صديقة للبيئة في حياتنا اليومية، وكذلك المشاركة في الأنشطة والفعاليات التي تُنظّم لمكافحة تلوث الهواء.
المواد السرطانية تتضاعف!
كشفت النائبة نجاة عون صليبا في حديث لـ “صوت كل لبنان” عن نتائج دراسة أجرتها حول تلوث الهواء في لبنان، والتي رسمت صورة قاتمة عن تأثيرات هذه الظاهرة في صحة السكان. فالدراسة أظهرت ارتفاعًا ملحوظًا في نسبة تلوث الهواء، ما يهدد صحة اللبنانيين بشكل مباشر. وربطت الدراسة بين هذا الارتفاع وزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب والرئتين، بالإضافة إلى أمراض السرطان في حالات التنشق المزمن للملوثات. الأخطر من ذلك، أشارت الدراسة إلى تَقدُّم ظهور هذه الأمراض الخطرة في لبنان، إذ باتت تظهر قبل عشرين عامًا من المعدل العالمي.
وتُسلّط الدراسة الضوء على منطقة بيروت كمثال حي على تفاقم تلوث الهواء، حيث كشفت عن تضاعف المواد السرطانية نتيجة الاعتماد المكثف على المولدات الكهربائية وتلوثها الكبير. فالنائبة عون صليبا انتقدت في حديثها غياب أي استراتيجية أو رؤية لدى الوزارات المعنية لتأمين بدائل للمولدات، محملةً إياهم مسؤولية تعريض السكان لمخاطر صحية جسيمة.
لكن الدراسة لا تقتصر على تشخيص المشكلة، بل تطرح حلولًا ممكنة. أوضحت النائبة وجود تعميمين صادرين عن وزارة البيئة يلزمان أصحاب المولدات بوضع فلاتر للحد من تلوث الهواء، الأول للفلاتر العادية في المولدات الصغيرة، والثاني للفلاتر الأكثر تطوراً في المولدات الكبيرة.
وشددت النائبة على ضرورة التزام أصحاب المولدات بهذه التعليمات.