أخبار عربية

جريمة مجمع الشفاء الطبي..اي صورة يبحث عنها العدو!

منذ انطلاق معركة “طوفان الأقصى” وما تبعها من أحداث يمكن وصف بعضها بالدراماتيكية، كتبت في موقع الميادين أونلاين الكثير من المقالات، تناولت في بعضها تطوّر المشهد العسكري والميداني والتداعيات التي يمكن أن تنتج عنه، وأشرت في أخرى إلى الأهداف الإسرائيلية المرجوّة من وراء استهداف المدنيين والمؤسسات الخدمية والبنى التحتية، إضافةً إلى محاولة خلق واقع ديمغرافي جديد يساهم في إنشاء مناطق عازلة تلتهم أكثر من ثلث القطاع الساحلي الصغير، وتضغط سكانه الذين يزيدون على مليونين وربع مليون في أصغر مساحة جغرافية ممكنة، أملاً في دفعهم إلى الهجرة الطوعية، بعدما فشلت كل مساعي الاحتلال لتهجيرهم قسراً تحت نار صواريخه المدمرة وآلة حربه القاتلة.

في كل مقالاتي، كنت أحكّم العقل، وأميل إلى لغة هادئة رزينة، كما هي عادتي في الحياة، إلا أنني اليوم وأنا أحاول استجماع بعض الكلمات من ذاكرتي المشوّشة قد أفقد للأسف جزءاً من تلك الرصانة والهدوء، بعد ما رأيته من مشاهد يندى لها الجبين، وما سمعته من شهادات صادمة قد لا أستطيع أن أنقل جزءاً كبيراً منها، لأنها في بعضها تبدو خيالية وغير قابلة للتصديق إلا لمن عايشها، وفي البعض الآخر لفظاعتها وبشاعتها التي فاقت كل الحدود، وتجاوزت بمراحل كل حدود المنطق وأخلاق الحروب، وباتت بعيدة كل البعد عن الانصياع للقرارات الأممية المتعلّقة بحماية حقوق المدنيين في أوقات الحرب أو حتى تلك الخاصة بحقوق أسرى الحرب من المقاتلين.

ما رأيته وما سمعته عمّا جرى خلال 13 يوماً من الحصار الخانق لمجمع الشفاء الطبي وما تخلّله من جرائم، يعدّ دون أدنى شك جرائم حرب يحاسب عليها القانون الدولي أو ما تبقّى منه بعدما هشّمته السطوة الأميركية التي سعت وما زالت من أجل تحويله إلى أداة للضغط على أعدائها، كما فعلت مع سوريا وروسيا وإيران وغيرها.

أما عندما يتعلّق الأمر بالكيان الصهيوني، فهذا القانون ينزوي في أدراج موصدة لا يتم فتح أقفالها إلا بحسب الحاجة الأميركية والإسرائيلية.

وفي بعض الأحيان، يتم استغلال بعض بنوده لذر الرماد في العيون لا أكثر، كما جرى في محكمة العدل الدولية، التي لم تستطع كما هو حال مجلس الأمن العاجز إيقاف العدوان ومحاسبة المجرمين والقتلة الذين يتفاخرون بما حقّقوه من “إنجاز” قاموا خلاله بتدمير مجمع طبي مدني، إلى جانب قتلهم بدم بارد عشرات المواطنين الذين رفضوا إخلاء منازلهم وتمسّكوا بها، كما هي عادة الفلسطينيين على الدوام، رغم ما تعرّضوا له من جرائم ومذابح لا يبدو أنها ستتوقف قريباً للأسف الشديد.

مجمع الشفاء الطبي الذي أعلن “جيش” الاحتلال في تحدٍّ سافر لكل القيم الإنسانية وكل المواثيق الدولية أنه لن يستطيع بعد اليوم تقديم الخدمة الطبية لسكّان القطاع، وأنه نجح في إخراجه من الخدمة إلى الأبد، كان يُنظر إليه بأنه أحد أهم مقوّمات صمود الشعب الفلسطيني في قطاع غزة المنكوب، وأنه أحد أهم مفاصل الحياة التي لا غنى عنها، والتي تمد شعب القطاع ببعض الطاقة ليواصلوا صمودهم وثباتهم في ظل ما يتعرّضون له من إجرام وما يعانونه من كوارث، ولكنه أصبح للأسف الشديد أثراً بعد عين، بعدما أتت آلة الحرب الإسرائيلية المجرمة على معظم أقسامه الرئيسية والحيوية، ودمّرت جرافات الاحتلال مبانيه وطرقاته، وحتّى مقابره المستحدثة التي باتت تحتضن المئات من جثامين الشهداء بعد تعذّر الوصول إلى المقابر الأصلية أحياناً. وفي أحيان أخرى، بعد امتلاء مقابر أخرى عن بكرة أبيها نتيجة عدد الشهداء الهائل في قطاع غزة.

إلى جانب ذلك، تم تدمير كل الأقسام التخصصية، مثل قسم القلب، وغسيل الكلى، والتصوير الطبقي والمغناطيسي، ومختبرات بنك الدم، حتى المشرحة وثلاجات الشهداء تم تدميرها عن بكرة أبيها، فلا يترك الاحتلال وسيلة لقهر الفلسطينيين أو دفعهم إلى إعلان الاستسلام ورفع الراية البيضاء إلا واستخدمها، من دون النظر إلى أي مواثيق دولية، ومن دون الاكتراث لأي انتقادات، أو الاستماع إلى أي مناشدات، لأنه ببساطة يحظى بمظلة حماية قانونية وسياسية توفرها له سيّدة الإجرام في العالم الولايات المتحدة الأميركية، وفي ظل عجز عربي وإسلامي مخزٍ ربما يصل في بعض الأحيان إلى تواطؤ ومشاركة من خلف الستارة، حرصاً على كراسٍ زائلة ومغانم مؤقتة، مع بعض الاستثناءات من الأحرار والشرفاء في أمتنا التي ما زلنا نراهن عليها.

ما جرى في مجمع الشفاء الطبّي من جرائم ضد الإنسانية ربما لم يتكرر خلال الحرب على غزة، مع ما تخللها من إعدامات ميدانية لعشرات الشبان بشبهة انتمائهم إلى المقاومة بعد خضوعهم لتحقيقات قاسية وإجبارهم على الإدلاء باعترافات تحت الضغط غير المسبوق، إلى جانب ما جرى من عمليات اغتصاب لبعض النساء والفتيات داخل مجمع الشفاء وفي محيطه، والتي للأسف قد لا تسمح العادات والتقاليد والخوف على السمعة من كشف معظمها، إضافة إلى التدمير الممنهج لكل مقومات الحياة في مربع سكني كامل يعتبر من الأكثر نشاطاً وحيوية بسبب موقعه الجغرافي المميز، إلى جانب الكثير من التفاصيل الصغيرة التي ستتكشف تباعاً.

كل ذلك يأتي في إطار الرغبة الإسرائيلية الواضحة والمعلنة في تحويل قطاع غزة إلى منطقة غير صالح للسكن، وهو كما كتبنا أكثر من مرة أنه الهدف الأساسي للعدوان على غزة التي كانت طوال سنوات الاحتلال حجر عثرة في طريق اكتمال المشروع الصهيوني الهادف إلى إنشاء مملكة بني صهيون الممتدة من النيل إلى الفرات، ومثّلت في كثير من المحطات النضالية للشعب الفلسطيني مرتكزاً أساسياً ساهم في تطوير أدائهم الجهادي وتعزيز صمودهم في أرضهم والحفاظ على ثوابتهم الوطنية الراسخة في وجه مشاريع التصفية والانهزام.

ربما نجح الاحتلال، بحسب كثير من المشاهدات، في تحويل قطاع غزة إلى منطقة فاشلة اقتصادياً، بعدما دمّر كل منشآتها التجارية والصناعية، ودفع معظم رؤوس الأموال إلى الخروج منها حفاظاً على حياتهم أحياناً، وفي أحيان أخرى، على مصالحهم ومشاريعهم أو ما تبقّى منها، وربما نجح أيضاً في تحويل القطاع المحاصر منذ 18 عاماً، والذي كان قبل الحرب يفتقد الكثير من مقوّمات الحياة، فيما أصبح الآن يفتقد معظمها، إن لم يكن كلها، إلى أراضٍ قاحلة لا تُصلح للزراعة بعدما دمر كل الأراضي الزراعية وجرفها، وحوّل بعضها إلى “كراجات” لدباباته وآلياته العسكرية، فيما جعل الجزء الآخر غير صالح للزراعة، بفعل المواد السامة والكيميائية التي تحتويها قنابله الضخمة التي قصف بها كل شبر من أراضي القطاع، والتي تركت في السابق آثاراً كارثية في صحة سكان القطاع، ولا سيما بعد عدوان 2008 الذي وصلت بعده نسب المصابين بمرض السرطان إلى مستويات قياسية لم تكن موجودة من قبل.

وربما نجح الاحتلال أيضاً في إيقاف المسيرة التعليمية، وساهم في ضياع أحلام الكثير من الطلبة، ولا سيما في المراحل الثانوية أو في الجامعات التي نسف معظم مبانيها، كما هي الحال في جامعات الأقصى والإسراء والجامعة الإسلامية والأزهر، إلى جانب استهداف معظم المدارس الحكومية وتلك التابعة لوكالة الغوث، والتي ستحتاج لسنوات طويلة لإعادة بناء ما تهدّم وترميم ما تضرر منها، هذا في حال غادرها الأهالي الذين فقدوا مساكنهم وبيوتهم، ما اضطرهم إلى السكن في فصولها والحياة الصعبة والقاسية في ساحاتها.

إضافةً إلى كل ما تقدّم، ربما نجح الاحتلال في تدمير كل المشافي التي تقدم الخدمات الصحية للمواطنين، بل لم يترك مركزاً صحياً صغيراً أو كبيراً، رئيسياً أو فرعياً، إلا واستهدفه ودمّره، ما جعل الحصول على خدمة صحية في حدها الأدنى في قطاع غزة مسألة صعبة ومعقدة، وتحتاج إلى جهد كبير وعمل دؤوب ومتواصل قد لا تصل نسبة النجاح فيه إلا إلى 30% في أحسن الأحوال.

أما أصحاب الأمراض المزمنة وأولئك الذين يحتاجون إلى عمليات جراحية، حتى لو كانت صغيرة، فليس لهم إلا الله، فهم يعانون بشكل لا يوصف، ويعضّون على آلامهم وجراحاتهم بأسنانهم في انتظار الفرج الذي يحاول الاحتلال جعله بعيد المنال عنهم.

غير بعيد من كل ما فعله الاحتلال على المستويات الحياتية والاقتصادية والتعليمية والصحية، فقد قام بجرائم أخرى من قبيل هدم وتدمير آلاف البيوت، ما جعل السكان يبيتون في الشوارع والساحات، بعدما فاضت بهم المشافي والمدارس والجامعات أو ما تبقّى منها، إلى جانب فرضه حصاراً ظالماً وقاسياً، ولا سيما على سكان المنطقة الشمالية، الذين باتوا يعانون الجوع لأول مرة في تاريخهم، بعدما تغلّبوا عليه خلال سنوات حياتهم بفعل ما ابتدعوه من وسائل، وما ابتكروه من أدوات، ولكن الاحتلال تمكّن من تدميرها والقضاء عليها خلال هذا العدوان المجرم.

صحيح أن كل ما سبق جرى وما زال يجري في قطاع غزة المنكوب منذ نحو 6 أشهر، وصحيح أن هناك غيره الكثير مما لا يتّسع المجال لذكره في هذه العجالة، وصحيح أن قطاع غزة بالنسبة إلى كل شعوب العالم أصبح مكاناً غير صالح للسكن، وهو كذلك فعلاً، ولو جيء بمعظم أهل الأرض، حتى الذين سكنوا البوادي والقفار، وعانوا لهيب صيفها وزمهرير شتائها، لما استطاعوا تحمّل العيش فيه ليلة واحدة، إلا أن مسعى الاحتلال المجرم والملطّخة أياديه بدماء الأطفال والنساء والشيوخ لن يتحقّق، ولن تنجح كل مكايده ومؤامراته في دفع هذا الشعب الصابر والمجاهد إلى مغادرة أرضه، حتى لو كانت الوجهة سنغافورة أو اليونان.

لقد سقطت كل خطط الاحتلال في تهجير أبناء هذا الشعب منذ الأسبوع الأول للعدوان، وفشلت كل جهوده التي ساهم في بعضها وسطاء وأمراء، وسقطت كل رهاناته التي استعان على تحقيقها بالتهديد والوعيد، وأحياناً ببريق الذهب والفضة وأرض الأحلام، لدفع أهل غزة الكرماء والبسطاء في مغادرة أراضيهم المعجونة بعرقهم وتعبهم ودمائهم، ولا في ترك منازلهم حتى بعدما تحوّلت إلى كومة من الركام.

لقد فشل الاحتلال وجوقة الداعمين من خلفه وأمامه، وكل من يسوّق لمشاريعه في المنطقة والإقليم، في فرض سياسة الأمر الواقع على شعب غزة، حتى وهم في أشد حالات المعاناة التي لم يشهدوا لها مثيلاً طوال تاريخهم، والذين، وعلى الرغم من الألم والجوع والفقر وقلّة النصير، ما زالوا على عهدهم بأنهم لن يتركوا هذا الوطن، ولن يغادروا هذه الأرض، ولن يبرحوا موطئ أقدام أجدادهم وآبائهم العابقة برائحة التاريخ المجيد والمجبولة بدم الشهداء الذي ما زال ينزف كل يوم، بل كل دقيقة، وأنهم مستمرون في طريقهم الذي اختاروه كم دون إكراه أو إجبار؛ طريق الجهاد والنضال والمقاومة حتى النصر أو الشهادة.

على الرغم من حجم الألم الهائل الذي يحيط بكل أهل القطاع البواسل بعد جريمة مشفى الشفاء، وعلى الرغم من كل ما تكشّف، وهو كثير حتى هذه اللحظات التي نكتب فيها، وما سيتكشّف لاحقاً بعد أن تزول غمة الحرب وتتوقف آلة العدوان، فإن شعبنا العزيز والكريم لن يستسلم ولن يغادر أرضه، سواء بالترهيب أو الترغيب، وسيبقى مرابطاً فيها ومتمسكاً بكل شبر منها، مهما كانت الصعوبات، ومهما ازدادت المخاطر وكثُرت المعوقات.

هذا الشعب، بمساندة شرفاء الأمة وأحرار العالم، سيبقى على عهده ووعده، لن يقيل ولن يستقيل، ولن يستسلم مهما دفع من أثمان، ومهما قدّم من تضحيات، لأنه يدرك منذ اليوم الأول لمسيرته الطويلة المعبدة بالدم والأشلاء أن ثمن الحرية غالٍ، وأن ضريبة تحرير الأرض مرتفعة، لكنه جاهز حتى يدفعها، مهما طال الزمن، ومهما تعاظمت الخطوب.

الميادين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى