هل يستطيع نتنياهو أن يخرج منتصراً من الحرب الإجرامية التي يشنّها حالياً على قطاع غزة؟ أظن أنه يؤمن بذلك فعلاً، بل ويبدو على يقين من أن الأهداف التي حدّدها لهذه الحرب ليست واقعية فحسب وإنما هي قابلة للتحقيق أيضاً، ما يفسّر إصراره العنيد على رفض وقف إطلاق النار قبل أن يتمكّن “جيشه” من استعادة جميع الأسرى المحتجزين في القطاع، وتدمير البنية العسكرية لحركة حماس وإسقاط حكمها في القطاع، وتنصيب سلطة بديلة تقبل التعاون الأمني مع الكيان الصهيوني، وتكون مهمتها الأولى حماية هذا الكيان من أي هجمات “إرهابية” في المستقبل.
ورغم فشل نتنياهو في تحقيق أيّ من هذه الأهداف على مدى أكثر من خمسة أشهر، وقيام “جيش” الاحتلال بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وعمليات إبادة جماعية ألّبت عليه الرأي العام العالمي في جميع أنحاء العالم، إلا أنه ما زال يصرّ على مواصلة الحرب. لذا يبدو أن البحث الجدي عن مخرج مقبول للأزمة الراهنة بات متوقّفاً على رحيل نتنياهو نفسه، وهو احتمال لا أستبعد حدوثه، ومن ثم يجب التحسّب له والاستعداد لما قد يترتّب عليه من نتائج وتداعيات.
يرى كثيرون أن السبب في إصرار نتنياهو على إطالة أمد الحرب يعود إلى خشيته من أن يؤدّي توقّفها إلى تفكّك حكومته وسقوطها على الفور، ما يعني نهاية دوره السياسي وبدء ملاحقات قضائية ضده قد تفضي به إلى السجن. ورغم ما تنطوي عليه وجهة النظر هذه من وجاهة إلا أنها ليست كافية في تقديري لتفسير حقيقة ما يدور في عقل نتنياهو، ولا تعكس طريقة إدراكه لذاته أو لدوره في التاريخ الصهيوني. فنتنياهو يرى أنه شخصية محورية واستثنائية في بناء المشروع الصهيوني ويعتقد أنه نجح في وضع بصمته الشخصية على مسار وتطوّر هذا المشروع.
ولا أظنّ أنني أبالغ إن قلت إنه يعتقد أن تاريخه السياسي يرشّحه ليكون أحد “ملوك بني إسرائيل”. فهو يعيش في قلب الحياة السياسية للكيان الصهيوني منذ انتخابه رئيساً لحزب الليكود عام 1993، أي منذ أكثر من ثلاثين عاماً تمكّن خلالها من تشكيل وقيادة العديد من حكومات الكيان، حيث نجح في أن يصبح رئيساً لوزرائه لمدة تزيد على ستة عشر عاماً، متفوّقاً بذلك على بن غوريون نفسه، مؤسّس “دولة إسرائيل”.
ولأنه تولّى قيادة “الدولة” اليهودية في مرحلة مفصلية من تاريخها، بدأت عقب اغتيال إسحق رابين مباشرة، أكثر رؤساء وزرائها اقتناعاً بحلّ الدولتين، يعتقد نتنياهو أنه الصانع الحقيقي لـ “دولة إسرائيل الكبرى”، خصوصاً وأنه تمكّن من إجهاض حلّ الدولتين الذي كان ولا يزال يرفضه ويرى فيه كارثة كبرى بالنسبة لـ “إسرائيل”، وذلك بتمكّنه من هزيمة شيمون بيريز في انتخابات 1996.
صحيح أنه هزم على يد إيهود باراك في انتخابات 1999، ما أدى إلى انسحابه من الحياة السياسية، لكنه سرعان ما عاد إليها من جديد وتقلّد مناصب وزارية مهمة في حكومة شارون، ثم ما هي إلا سنوات قليلة حتى أصبح رئيساً للوزراء مرة ثانية عام 2009 وتمكّن من البقاء في هذا المنصب حتى عام 2021، قبل أن يعود إليه مرة ثالثة في نهاية 2022، وتلك كلها “إنجازات” لم يسبقه إليها أي سياسي آخر في تاريخ الكيان الصهيوني.
تجدر الإشارة هنا إلى أن نتنياهو ظل طوال كل سنوات حكمه يعمل ويناور من أجل تحقيق هدفين رئيسيين: تصفية القضية الفلسطينية ودمج “إسرائيل” في المنطقة في الوقت نفسه، وكان ولا يزال يعتقد أنه الوحيد القادر على تحقيقهما معاً.
فقبل أسبوعين فقط من “طوفان الأقصى” كان نتنياهو على وشك أن يقطف ثمار تطبيع العلاقات مع السعودية، وكان على قناعة تامة بأنه سيستطيع إنجاز هذا الصيد الثمين من دون أن يضطر لتقديم تنازلات جوهرية تتعلّق بالقضية الفلسطينية. غير أن “طوفان الأقصى” عاجله وجرف في طريقه كل ما كان يتصوّر أنه بات في متناول اليد.
اليوم، وبعد مرور أكثر من خمسة أشهر على هذا “الطوفان”، يبدو أن نتنياهو، وعلى عكس كل تصوّراته السابقة، في طريقه لكي يصبح رئيس الوزراء الأكثر فشلاً في تاريخ “إسرائيل”. فلم يسبق أن أهين “الجيش” الصهيوني، ومعه كل أجهزة أمن الكيان، مثلما أهينوا يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ولم يفشل هذا “الجيش”، ومعه كلّ أجهزة الأمن، مثلما فشلوا على مدى الأشهر الخمسة المنصرمة في تحقيق أي من الأهداف التي حدّدها نتنياهو.
فلم ينجح حتى الآن لا في تحطيم البنية العسكرية لحركة حماس، ولا في تحرير الأسرى المحتجزين في القطاع، بل ووجد نفسه مضطراً للتفاوض غير المباشر مع حماس لكي يتم الإفراج عن بعض الأسرى، في رسالة واضحة على أن التفاوض مع حماس هو السبيل الوحيد للإفراج عن هؤلاء الأسرى وبالشروط التي تقبلها حماس.
فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أن القضية الفلسطينية لم تكن حية وحاضرة على أجندة المجتمع الدولي كله مثلما هي عليه الآن، وأنه كلما أمعن “جيش” الاحتلال الإسرائيلي في قتل المدنيين العزل في غزة كلما انكشفت وحشيته، وكلما أيقن العالم كلّه أن المشروع الصهيوني لا يمكن إلا أن يكون مشروعاً استعمارياً واستيطانياً وتوسعياً وعنصرياً بطبيعته، لتبيّن لنا حجم الإحباط الذي يعاني منه نتنياهو حالياً، وهو ما يفسّر حالة الإنكار التي يعيشها والتي تدفعه إلى الإصرار العنيد على مواصلة القتال حتى النهاية.
يعتقد نتنياهو أن “إسرائيل” لم تهزم بعد وأنه لا يمكن لحماس أن تلحق الهزيمة بـ “جيش” يحتلّ مرتبة متقدّمة على قائمة أقوى جيوش العالم، ولذلك يصرّ على اجتياح رفح برياً، أيا كان حجم الخسائر المدنية في صفوف 2.3 مليون من البشر الذين يتكدّسون في هذه الرقعة الضيّقة من القطاع، بل ويصرّ على الترويج لمقولات مفادها أن القوى الدولية التي تعترض على هذا الاجتياح لا تريد لـ “إسرائيل” أن تنتصر، وأن تحقيق أهداف الحرب بات متوقّفاً على خوض معركة رفح.
لكن الواقع يؤكد أنه يخدع نفسه، خصوصاً وأنه يدرك يقيناً أن “جيشه” لم يسيطر بالكامل على شمال غزة أو وسطها، وأن قوى المقاومة لا تزال قادرة على الاشتباك معه في كل المناطق وعلى كل جبهات القتال، والأرجح أن يضطر نتنياهو إلى قبول وقف إطلاق النار إن آجلاً أو عاجلاً.
لذا أعتقد أن حماس كانت موفّقة حين قدّمت مؤخّراً عرضاً يتسم بالكثير من المرونة ويحافظ في الوقت نفسه على ثوابتها وأهدافها الاستراتيجية العليا.
فقد اقترحت حماس عملية تفاوضية من ثلاث مراحل، تمتد كل منها ستة أسابيع. صحيح أن هذا العرض لا يشترط وقفاً دائماً لإطلاق النار في المرحلة الأولى، لكنه يتضمّن آليات تحقّق الربط العضوي بين المراحل الثلاث، والتي ينبغي أن تنتهي بالإفراج عن جميع الأسرى المحتجزين في القطاع مقابل الإفراج عن جميع المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع بالكامل وبدء عملية الإعمار.
وفي تقديري أن نتنياهو أصبح الآن محاصراً، سواء قبل بهذه الصيغة التي تدور حولها مفاوضات تجري حالياً في قطر، يفترض أن يكون سقفها الزمني أسبوعين على أكثر تقدير، أو رفضها.
فالرفض يعني أنه غير مكترث بمصير الأسرى الإسرائيليين وليس مهتماً باستعادتهم أحياء، وهو عامل من شأنه أن يزيد من حدة الاحتقان داخل الكيان الصهيوني، ما قد يؤدّي إلى خروج بعض الوزراء وانفراط عقد الحكومة، وهو ما يسعى نتنياهو لتجنّبه بأي ثمن.
كما سيعني أيضاً أنّ الاجتياح البري لرفح بات حتمياً، وهو ما قد يؤدي إلى كارثة إنسانية أكبر بكثير من تلك التي وقعت بالفعل، وراح ضحيتها حتى الآن ما يقرب من مئة وعشرين ألف فلسطيني بين قتيل وجريح ومفقود تحت الأنقاض، وهو عامل من شأنه أن يزيد من عزلة “إسرائيل” وقد يعرّضها لعقوبات دولية.
ولأنّ اجتياح رفح لن يؤدّي بالضرورة إلى استسلام أو هزيمة فصائل المقاومة الفلسطينية، فلا شك أن فشل “الجيش” الإسرائيلي في حسم معركة رفح سيلحق بنتنياهو ضرراً غير قابل للتعويض، يصعب معه أن تحافظ الحكومة على تماسكها، وبالتالي ستتفكّك بعد أن تجبر على الاعتراف بالهزيمة.
وإذا تبيّن أنّ “الجيش” الإسرائيلي يحقّق تقدّماً في معركة رفح، قد يلحق ضرراً كبيراً بحماس، فقد يؤدي ذلك إلى اشتعال محور المقاومة وتحوّل المواجهة إلى حرب إقليمية واسعة النطاق، وهو ما يستحيل على إدارة بايدن أن تقبل به في عام انتخابات رئاسية شديدة الصعوبة.
على صعيد آخر، إذا وافق نتنياهو على الصيغة التي تقترحها حماس، أو صيغة قريبة منها، فمعنى ذلك أن الهدوء في قطاع غزة سيستمر لأكثر من أربعة أشهر، ما سيؤدي إلى تفاعلات عنيفة داخل الكيان الصهيوني، يرجّح أن تنتهي بتفكّك وسقوط الحكومة.
أخلص مما تقدّم إلى أن نتنياهو يواجه مأزقاً لا فكاك منه. فحكومته مهددة بالسقوط سواء قبل الصيغة التي تقترحها حماس أو رفضها، وبالتالي يرجّح أن تجري في “إسرائيل” انتخابات مبكرة خلال الأشهر الستة المقبلة على أكثر تقدير، وهو ما سينتهي حتماً باختفاء نتنياهو من المشهد السياسي.
ولا شك أن هذا سيكون إنجازاً كبيراً في حد ذاته، يحسب لحماس، لكنه قد ينطوي في الوقت نفسه على مخاطر جديدة ينبغي التحسّب والاستعداد لها.