لم يكن سهلاً إقناع عائلة الشهيد إبراهيم الدبق الذي أصيب في غارة استهدفت منزله في بلدة كونين، في 10 شباط الجاري، بالحديث عن وصيته بالتبرّع بأعضائه.
«فهذا دم ابني، وهو ليس للمباهاة»، يقول والده علي الدبق قبل أن يوافق، بعد محاولات عدة، على الحديث «لتعميم الفائدة وتحفيز الآخرين» على ثقافة وهب الأعضاء.
كانت زينة خليل، والدة بوب (32 عاماً) كما يناديه أهله و«روح الله» كما اختار اسمه الجهادي، في منزلها عندما سمعت دويّ الانفجار وشاهدت الدخان يتصاعد من محيط منزل ابنها. قذف عصف الانفجار بابنها عشرات الأمتار، فانقبض قلبها.
«الإصابة انحصرت في الرأس، فيما لم يصب باقي الجسد بخدش». بعد جزم الأطباء في مستشفى الرسول الأعظم بدخوله في موت سريري، بدأ إخوة الشهيد يمهّدون لإخبار والدهم، المريض بالقلب، بأمر الوصية التي لم يكن على علم بها سوى والدته وشقيقه، إذ كان الشهيد قد ملأ، قبل حوالي عامين، استمارة لوهب أعضائه لدى جمعية «من أحياها» التي حوّلت ملفه إلى الهيئة الوطنية لوهب الأعضاء والأنسجة البشرية التابعة لوزارة الصحة.
وفق الآلية القانونية، حضر مندوبون عن الهيئة والجمعية لمقابلة وليّ أمر صاحب الوصية وأخذ توقيعه على التبرّع بقلبه وكبده وإحدى كليتيه.
كان ذلك الاختبار الأصعب الذي تعرّض له أبو خليل.
لا ينكر أنه تردّد قبل الموافقة: «تنازعتني عاطفتي كأب وإنسانيتي. كنت كلما اقتنعت تملّكني الأمل بأن ابني قد يستفيق من غيبوبته.
بعد صراع مع نفسي، انتصرت إنسانيتي برغم أن هذا القرار ليس هيناً، بل يحتاج إلى قوة قلب وقناعة وإيمان».
أما والدة الشهيد فقد وافقت على الفور، مشيرة إلى أنها هي من شجّعت ابنها على فكرة التبرع: «قبل عامين، وبعد محاضرة للسيد حسن نصرالله، اقتنعت بالخطوة وطلبت من ابني البكر أن يجلب لي من بيروت استمارة التبرّع لأملأها. فتحمّس إبراهيم وطلب استمارة له». ما يصبّرها أن ابنها الذي نجا من غارتين عنيفتين خلال العدوان «كان يمكن أن ينتشل مُقطّع الأوصال أو يُفقد أثره كما حصل مع بعض رفاقه.
وفي كل الأحوال، كان التراب سيأكل جسده في القبر. ورغم قوة الغارة الثالثة، فإن الله سلّم جسده ليمنح الحياة لآخرين بجسده كما منحها بشهادته».
وافقت العائلة ليس على تنفيذ وصية الدبق فقط، بل أيضاً على «التبرع بكل ما يلزم».
قبل إجراء عملية نقل الأعضاء من الدبق إلى المتلقّين الذين يمنع القانون كشف هويتهم، كانت العائلة منشغلة بتحضير مراسم التشييع والعزاء، وتوافق أفرادها على التكتّم على أمر الوصية. «فعلنا ذلك كصدقة جارية بيننا وبين الله، وانتهت القصة بالنسبة إلينا». رئيس جمعية «من أحياها» الطبيب عماد شمص أكّد لـ«الأخبار» أن «وصية الشهيد الدبق أحدثت انقلاباً وأعادت قضية وهب الأعضاء إلى الضوء»، مشيراً إلى أن لدى الجمعية اليوم بين 7 آلاف و10 آلاف استمارة متبرّع.
ولفت إلى أن المجتمع يستجيب وفق الأحداث، مذكّراً بـ«التفاعل اللافت الذي سُجّل بعد محاضرة للسيد نصرالله في آب الماضي شجّع فيها على وهب الأعضاء بعد الإعلان عن قيام عائلة من بلدة الطيبة بالتبرع بأعضاء نجلها علي شرف الدين إثر وفاته بحادث سير». وبعد الإعلان عن وصية الدبق وإشادة السيد نصرالله بها «وفّر علينا شوطاً طويلاً من الإقناع بعد حسم الإجازة الفقهية والشرعية بالوهب».
وأشار شمص إلى أنه في «عام 2008، اقترحت الهيئة الصحية الإسلامية تأسيس مشروع (العطاء السامي) للتبرع بالخلايا الجذعية لمعالجة الشلل الرباعي».
وبعد سبع سنوات، في عام 2017، تأسّست «من أحياها» بمبادرة من الأمين العام لحزب الله الذي أطلق عليها هذا الاسم، وهي تركّز على التوعية لنشر ثقافة الوهب، وتلعب دور الوسيط بين المتبرعين والهيئة الوطنية، إذ تُحول طلبات المتبرعين إلى الهيئة التي لديها في كل مستشفى مندوب يبلّغ عن حالات الموت الدماغي.
ولفت إلى أن قانون الوهب عالمياً «يمنح صلاحية الموافقة والرفض لأهل المتوفَّى. فإذا كان متبرعاً في حياته، يملكون الحق برفض تنفيذ وصيته. وفي حال لم يكن متبرعاً، يملكون الحق بالتبرّع بأعضائه». وما سهّل تنفيذ وصية الدبق، نقله إلى مستشفى الرسول الأعظم حيث يوجد مندوبون عن «من أحياها» ومركز لزراعة الأعضاء والمركز الوحيد في لبنان لزراعة الكبد.
إلا أن شمص استعرض عوائق عدة تعرقل تحويل وهب الأعضاء إلى ظاهرة عامة في لبنان، أبرزها أن الهيئة الوطنية لوهب الأعضاء، التي تملك داتا المتبرعين والمرضى المحتاجين، تحتاج إلى الدعم والتحفيز لكي تحفّز الآخرين، مشيراً إلى أن ميزانيتها لا تتجاوز 450 مليون ليرة ولا يعمل فيها سوى سبعة موظفين.