بعد الإعلان عن عزم الولايات المتحدة وبعض شركائها في المنطقة العمل على وضع خطة شاملة لإحلال سلام دائم بين الفلسطينيين و»الإسرائيليين»، تحدّد جدولاً زمنياً لإقامة دولة فلسطينية يعلن عنها في أقرب وقت، جاء ردّ نتنياهو سريعاً وحاسماً من خلال بيان صدر عنه بقوله: «إسرائيل ترفض بشكل قاطع، الإملاءات الدولية بشأن التسوية الدائمة مع فلسطين» وتعارض «الاعتراف الأحادي الجانب بالدولة الفلسطينية».
كما اعتبر أنّ «محاولة فرض إقامة الدولة الفلسطينية علينا بشكل أحادي، من شأنها أن تعرّض وجود دولة «إسرائيل» للخطر!
وزير الأمن «الإسرائيلي» ايتمار بن غفير قال: «العالم يريد أن يمنح الفلسطينيين دولة، وهذا لن يحدث!».
وزير المالية بتسلئيل سموتريتش من جهته طالب الطاقم الوزاري برفض إقامة دولة فلسطينية! بدوره وزير الشتات عميحاي شيكلي، رفض الخطة الأميركية المعلنة، وقال إنه يجب أن نقاوم الخطة وان نهدد بخطوات أحادية كإلغاء اتفاقية أوسلو !
إنّ رفض «إسرائيل» القاطع لدولة فلسطينية ليس وليد الساعة. فهذا الرفض رافق سلوك قادة الحركة الصهيونية قبل تأسيس الكيان «الإسرائيلي» وحتى اليوم، فكراً ونهجاً وممارسة.
إذ أنّ العامل الديموغرافي يبقى السبب الرئيس الذي يجعل قادة «إسرائيل» يرفضون بشكل قاطع دولة فلسطينية مستقلة. لأنّ الدولة التي أرادوها أن تكون يهودية بالكامل لهم، ستتلاشى مستقبلاً وسط البحر الديموغرافي الفلسطيني، الذي يتوسّع ويكبر باستمرار كماً ونوعاً وأداء…
كان دافيد بن غوريون يتعاطى مع المسألة الديموغرافية الفلسطينية باهتمام كبير، وقلق وحذر شديدين، واضعاً نصب عينيه، أهمية وتأثير التعداد البشريّ الفلسطينيّ على «إسرائيل».
عند توقيع «إسرائيل»على اتفاقية الهدنة مع الأردن عام 1949، برزت أصوات لقادة يهود متطرفين، يرفضون التخلي عن أجزاء من «أرض إسرائيل» (الضفة الغربية). كان أبرز هؤلاء مناحيم بيغين الذي اتهم بن غوريون بالتراخي.
وكان ردّ بن غوريون «أنه من الأفضل تحقيق الدولة اليهودية من دون أرض إسرائيل كلها، بدلاً من أرض إسرائيل كلها من دون دولة يهودية».
كان رأي بن غوريون في ذلك الوقت، أنه إذا كان المراد هو إنشاء دولة ديموقراطية، فمن غير الممكن إقامتها على كامل «أراضي إسرائيل»، أو حتى على القسم الشرقي منها، لأنّ عدد العرب يفوق عدد اليهود فيها.
كانت أولوية بن غوريون تكمن بالدرجة الأولى في تأسيس وإنشاء دولة «إسرائيل»، أياً كانت الخسائر التي تلحق باليهود. ولم يكن يهمّ القادة الصهاينة إنقاذ اليهود أثناء الحكم النازي، بمقدار ما كان يهمّهم الإتيان ولو بقسم منهم الى فلسطين. لقد عبّر بن غوريون صراحة أمام القادة الصهاينة لحزب العمل بقوله:
«إنه لو خيّر بين إنقاذ كلّ أطفال ألمانيا اليهود بأخذهم الى انكلترا، أو إنقاذ نصف الأطفال بحملهم الى «أرض إسرائيل»، فإنه سيختار الحلّ الثاني.»
بن غوريون وإنْ كان يتمنى في قرارة نفسه بسط الدولة «الإسرائيلية» على كامل أرض فلسطين إلا أنّ الواقع الديموغرافي حال دون تحقيق ذلك، تاركاً المهمة للجيل الصهيوني القادم، على اعتبار أنه «لا يوجد في التاريخ ترتيب نهائي في ما يتعلق بالحكم ولا في ما يخصّ الحدود والترتيبات الدولية».
كان بن غوربون على قناعة بـ «أنّ الأرض التي عليها عرب، والأرض التي ليس عليها عرب، نوعان مختلفان جداً من الأرض.»
لقد كشف العديد من القادة الصهاينة قبل قيام «إسرائيل»، عن سياساتهم، ونياتهم الرامية الى ترحيل العرب، وهو تعبير مظرّف استخدموه بدلاً من تعبير التهجير والطرد. فمن ثيودور هرتزل وحاييم وايزمن، مروراً بدافيد بن غوريون، واسحق بن زفي، وبنجاس روتنبرغ، وزئيف جابوتنسكي، ويوسف فايتس، وصولاً الى مناحيم بيغين وأرييل شارون وبنجامين نتنياهو، جميع هؤلاء أيّدوا وتشبّعوا بفكرة طرد العرب من فلسطين.
مدير دائرة الاستيطان في الصندوق القومي اليهودي، رئيس لجنة الترحيل الرسمية التابعة للحكومة الإسرائيلية عام 1948 يوسف فايتس، سجل في يوميّاته عام 1940، أنه «يجب ان يكون واضحاً بيننا، ان لا مجال لكلا الشعبين في هذا البلد…. وبعد ترحيل العرب سيكون البلد مفتوحاً لنا على مصراعيه… ليس هناك مجال لحل وسط في هذا الشتات… السبيل الوحيد هو ترحيل العرب من هنا الى بلاد مجاورة… لا يجب استثناء قرية واحدة او عشيرة واحدة. يجب أن يتم الترحيل من خلال استيعابهم في العراق وسورية وحتى في شرق الأردن!».
لا شك في أن معضلة «إسرائيل» ومأزقها يكمن في خزان الهجرة الذي بدأ يتراجع وينضب مع الوقت.
التقديرات الإسرائيلية تشير الى أن تعداد اليهود في إسرائيل سيصل الى ذروته، في وقت لا تستطيع فيه الدولة العبرية تأمين مهاجرين جدّد اليها، مثل ما كان الحال في العقود الأربعة الماضية.
مما يجعل «إسرائيل» نفسها في وضع ديموغرافي وأمني حرج، لن تستطيع في ما بعد ان تواجه تعداداً بشرياً فلسطينياً وعربياً، يتعمّق ويكبر سنة بعد سنة، مع كلّ ما يتوفر لهذا التعداد من إمكانات علمية ومالية واقتصادية تتنامى وتتعزّز مع الأيام.
بعد 75 عاماً من قيام دولتها المؤقتة، لم تستطع «إسرائيل» جذب نصف اليهود في العالم الى أرض فلسطين.
إذا كان تعداد اليهود في العالم بما فيه يهود كيان الاحتلال بلغ 15 مليون و300 ألف نسمة مع نهاية عام 2023، فإنّ هناك 8 ملايين و250 ألف يهودي يعيشون خارج فلسطين المحتلة، حيث يقيم في الولايات المتحدة 6 ملايين يهودي.
في حين يقيم في دول أخرى في العالم ما مجموعه 2 مليون و250 ألف يهودي.
أما في «إسرائيل»، فقد بلغ عدد اليهود فيها 7 ملايين و181 ألف شخص مع نهاية عام 2023، وفقاً لدائرة الإحصاء المركزي الإسرائيلية.
في حين بلغ عدد العرب فيها 2 مليون و 42 ألف من غير اليهود، أيّ 27% من التعداد الكلي لـ «إسرائيل» البالغ
9 ملايين و795 ألف نسمة. وإذا ما أضفنا عدد السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة الذي يبلغ 5 ملايين و480 ألف شخص، وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، يصبح مجموع عدد الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية حوالي 7 ملايين و500 الف نسمة، أيّ أكثر من تعداد اليهود في فلسطين، على الرغم من موجات الهجرة اليهودية القادمة إليها على مدى عدة عقود.
عام 2018، نشرت تقديرات إسرائيلية بأنّ عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية، وقطاع غزة سيصل إلى 10 ملايين نسمة عام 2050، بالإضافة الى 3.2 مليون فلسطيني داخل «إسرائيل» (في حال بقيت)!
أمام هذا التحدّي الديموغرافي الفلسطيني، ذهبت «إسرائيل» للبحث عن أصول يهودية في أنحاء عديدة من العالم، بغية توطينهم في فلسطين.
هذا ما جرى مع استقدام جماعات متناثرة في العالم الى «إسرائيل»، حيث أكد حاخامات على «جذورها» اليهودية، كـ الفلاشا في أثيوبيا، وجماعة المانيبور القاطنين في شمال الهند على الحدود مع ميانمار، وكذلك يهود اللامبا Lemba في زيمبابوي.
لم تكن الغاية من جلب الجماعات اليهودية غاية دينية بحدّ ذاتها، بمقدار ما هو أبعد من ذلك. إذ سبق لمسؤولة لجنة الهجرة والاستيطان في الكنيست الإسرائيلي كوليت افيتال، أن كشفت عن الغاية من هجرة يهود مانيبور، عندما قالت إنّ استقدامهم الى «إسرائيل»، ليس من أجل إنقاذهم، لكن من أجل توطينهم، وإسكانهم في تجمّعات استيطانية واقعة وراء الخط الأخضر.
إنّ الحالة الديموغرافية الحاضرة، مسألة حيوية، وأمنية، واستراتيجية لـ «إسرائيل»، وتحدّ كبير لها مستقبلاً، لأنّ الواقع يحتم عليها جلب المزيد من المستوطنين، وإنْ لم يحظوا بمعايير الهوية اليهودية الأرثوذكسية، وتعليمات ومفاهيم وشروط الحاخامات المتشدّدين. فتغاضي هؤلاء عن المواصفات الصارمة التي يجب أن تتوفر في اليهودي، أصبح ضرورة حتمية تتعلق بأمن واستمرارية الكيان وإنْ أدّى هذا التغاضي إلى التمييز بين اليهودي «الأصلي» واليهودي «المستحدث»، او «المفبرك» على يد الصهيونية السياسية، والى المزيد من التمييز بين يهود الاشكناز ويهود السفارديم.
لقد كان بن غوريون متنبّهاً جداً للحالة الديموغرافية اليهودية والعربية، لذلك نجده يحذر من هذا الواقع عندما قال: «انّ كلّ أمّ يهودية لا تنجب على الأقل أربعة أطفال في صحة جيدة، تتخلى عن واجبها تجاه «الأمة!».
لم تكف 75 عاماً من عمر الدولة الإسرائيلية المؤقتة، كي يستطيع الكيان والمنظمات اليهودية الفاعلة في العالم، إقناع جميع اليهود بفكرة العودة الى «أرض الميعاد». لأنّ لدى يهود العالم ما هو أهم بكثير من الهجرة إلى فلسطين، وهو العامل الأمني، والاقتصادي، والاجتماعي، والنفسي، والثقافي، حيث تبقى «أرض الميعاد» لهؤلاء من الماضي، وإنْ حرك الحاخامات في نفوسهم الحنين الديني، وحثوهم على الهجرة الى الكيان المحتلّ…
قانون الكنيست الأخير الذي يرفض بالمطلق دولة فلسطينية، يجعل الكيان اليوم أكثر تعنتاً، وتطرفاً ووحشية، كي يقوّي ثقة الإسرائيليين بدولتهم ومستقبلهم، بعد ان بدّدت غزة آمال الإسرائيليين بالأمن والاستقرار، والاستمرار، وأكدت وجود شعب فلسطيني لم ولن يتخلى عن حقوقه، وهو الأكثر إرادة وعزماً وتمسكاً بالأرض والبقاء! وهل هناك غير الفلسطيني من هو أحق بالأرض والبقاء…!؟