يوم 23 ايلول/ سبتمبر2023، وقبل أسبوعين من طوفان الأقصى، ألقى نتنياهو خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، تناول فيه آفاق وآثار التطبيع والسلام مع الدول العربية، ودوره في تغيير الشرق الأوسط! أظهر نتنياهو خريطة للدول التي تربطها بـ «إسرائيل» اتفاقات سلام، او تخوض مفاوضات معها في هذا الشأن، والتي شملت مصر والسودان، والأردن، والإمارات، والبحرين، والسعودية.
لم تشر الخريطة الى دولة فلسطين، فيما كلمة «إسرائيل» غطت جغرافية فلسطين التاريخية بما فيها الضفة الغربية وقطاع غزة.
بعد يومين من طوفان الأقصى، اعتبر نتنياهو أنّ ردّ «إسرائيل» على الهجوم غير المسبوق سيغيّر الشرق الأوسط. وهذا يعني عزم نتنياهو الذهاب بعدوانه حتى النهاية للقضاء على المقاومة، بغية السيطرة في ما بعد على الشرق الأوسط، وقيادة «إسرائيل» له!
لم يكن نتنياهو أول من تكلم عن الشرق الأوسط الجديد او الكبير، إذ سبقه شيمون بيريز رئيس الحكومة «الإسرائيلية» الأسبق، الذي كشف بوضوح عام 1994 في كتابه «الشرق الأوسط الجديد» عن مشروعه، وتسويقه بتشجيع من الدول الكبرى المعنية بشؤون المنطقة، وفي مقدمها الولايات المتحدة.
الهدف النهائي من المشروع يقول بيريز «هو خلق أسرة إقليمية من الأمم ذات سوق مشتركة، وهيئات مركزية مختارة. وأن الحاجة الى هذا الإطار الإقليمي، تقوم على أربعة عوامل جوهرية: الاستقرار السياسي الذي يتطلب ضرورة التصدي لخطر الأصولية، فالاقتصاد، أيّ إنشاء منظمة تعاون إقليمية تتحرك على قاعدة فوق قومية، وهو الردّ الوحيد على الأصولية. ثم الأمن القومي، وهو تحالف إقليمي يساعد على منع طرف ما من الضغط على الزر المهلك الذي لا يبقي ولا يذر. وأخيراً نشر الديمقراطية التي تعمل على تبديد العوامل الكامنة وراء التحريض الأصولي».
لم يقتصر كلام قادة الكيان على الشرق الأوسط الجديد، وانما وجد تناغماً وتأييداً وموافقة من الولايات المتحدة، التي تعيره اهتماماً بالغاً، يكمن في إعادة صياغة التحالفات الإقليمية من خلال الإطاحة بالأنظمة والحركات الوطنية المعادية لسياسات أميركا و»إسرائيل» ومصالحهما في المنطقة. وقد ظهر هذا جلياً في حرب الولايات المتحدة على أفغانستان والعراق عامي 2002، و 2003.
ما دفع بعد ذلك الرئيس الأميركي جورج بوش يوم 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2003، ليعلن عن مشروع الشرق الأوسط الكبير، خلال حديثه عن الهيئة الوطنية للديمقراطية المعروفة بـ TED، حيث وضع بوش مخططاً للتدخل في الشرق الأوسط، بغية إعادة تشكيل وصياغة السياسة الأميركية، وصيانة الانظمة العربية من الداخل، من خلال نشر الديمقراطية، والحرية، والإصلاح السياسي، وحقوق الانسان! في ما بعد، وسعت واشنطن جغرافية الشرق الأوسط الكبير ليشمل أيضاً الباكستان وأفغانستان، ودول شبه الجزيرة العربية، ودول شمال أفريقيا وغيرها.
في حقيقة الأمر، لا يهمّ واشنطن صيانة الأنظمة العربية، وإنما يهمّها صياغة تحالفات إقليمية مع دول عربية، بمعزل عن أنظمتها السياسية البعيدة عن الممارسة الديمقراطية، وايضا بمعزل عن دول معادية للسياسة الأميركية، لا سيما المحور الإيراني – السوري الذي يشمل حركات المقاومة في لبنان والعراق وفلسطين.
أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، صرّحت وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس قائلة: «بدأنا نرى خطوطاً عريضة لإطار سياسي يسمح بوقف العنف بصورة أكثر ثباتاً، يرتكز الى قرار الأمم المتحدة 1559، عناصر هذا الإتفاق أصبحت واضحة تماماً. لكن ليس لديّ أيّ استعداد للقيام بعملية دبلوماسية من أجل إعادة الوضع بين لبنان و»إسرائيل» الى ما كان عليه… ما نراه الآن هو آلام المخاض لشرق أوسط جديد. فوقف إطلاق النار، سيكون وعداً كاذباً إذا أعادنا الى ما كان عليه الوضع.»
شرق أوسط كبير تريده واشنطن بعد إجراء تعديل على مصطلح الشرق الأوسط الذي أول من استخدمه، مكتب الهند، وهو الدائرة الحكومية البريطانية التي أسّستها بريطانيا عام 1858 للإشراف على إدارة مقاطعات الهند البريطانية بإدارة الحاكم العام للهند.
شمل المصطلح، الهلال الخصيب، وشبه الجزيرة العربية، وتركيا، وقبرص، ومصر، وإيران.
في ما بعد أصبح المصطلح معروفاً على نطاق عالمي واسع مع بداية القرن العشرين، وبالذات مع الفرد تاير ماهان Alfred Thayer Mahan، أهمّ استراتيجي أميركي في القرن التاسع عشر، الذي تطرق الى أهمية الشرق الأوسط، ومفهومه عن «قوة البحر» التي رأى فيها، أنّ الدول التي تمتلك القوة البحرية الأعظم، سيكون لها التأثير الأكبر في جميع أنحاء العالم.
مفهوم ماهان ترك تأثيره الكبير لاحقاً على الفكر الاستراتيجي للقوى البحرية العظمى في العالم (أميركا، بريطانيا، اليابان، والمانيا).
الولايات المتحدة إستخدمت مصطلح الشرق الأوسط بشكل رسمي لأول مرة عام 1957 اثناء طرحها «مشروع أيزنهاور».
ما تريده أميركا و»إسرائيل» من الشرق الأوسط الجديد، هو اختزال الدور العربي لصالح دور حيوي فاعل لـ «إسرائيل»، تحقق من خلاله هيمنة اقتصادية، وتفوقاً عسكرياً، والأبعد من ذلك، تحجيم الدول العربية الواحدة تلو الأخرى، من الداخل او الخارج، وتقويض وحدتها وتقسيمها، وتفتيت نسيجها القومي.
بعد حرب 1967، قالت غولدا مائير، انّ إضعاف كلّ من العراق والسودان، يتطلب إثارة النعرات العرقية فيهما، بغية استهداف وحدة البلدين، وجعل العمق الاستراتيجي لدول المواجهة، مكشوفاً ومختلاً في أيّ مواجهة مقبلة مع «إسرائيل».
آفي ديختر وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، في محاضرة له نشرتها صحف إسرائيلية في 10/10/2008 قال فيها: «إنّ الاستراتيجية التي نفذناها في جنوب السودان نجحت في تغيير اتجاه السودان نحو التأزم والانقسام وستنتهي الصراعات بتقسيمه الى عدة مكونات. إنّ قدراً كبيراً تحقق في الجنوب، ولدينا الفرصة الآن لتحقيقه في دارفور»!
إنه الشرق الأوسط الجديد الذي تريده «إسرائيل» وأميركا.
دول ممزقة، مقسمة، مسلوبة الإرادة، لا مقاومة فيها، ولا قرار وطنياً لها. ما يهمّهما هو الحفاظ على نفوذهما، ومصالحهما السياسية، والأمنية، والاستراتيجية والاقتصادية، والعسكرية، في الشرق الأوسط، على أن تكون دوله وحكامه، ومطبّعوه، بمثابة دمى على رقعة الشطرنج، تحرّكهما كيفما شاءت، ومتى أرادت.
هل يعي جيداً المطبّعون، والمتواطئون، والزاحفون على بطونهم الى «إسرائيل»، ما تبيّته لهم، ولبلدانهم، وشعوبهم مستقبلاً من خلال «الشرق الأوسط» الذي يعمل على تغييره مجرم الحرب في تل أبيب؟!
غزة اليوم، عنوان الوجود الفلسطيني، ورمز صمود الأمة. بها ومنها يريد نتنياهو محو أثرها، وتغيير وجه الشرق الأوسط بدعم أميركي مطلق، والسير بعدوانه حتى النهاية.
هل يدرك مغفلو الأمة، والمطبّلون لواشنطن واللاهثون وراء «إسرائيل» انّ دورهم في الشرق الأوسط، كدور المأمور بالآمر، والمرتزق بالمموّل، والعبد بالسيد !
التغيير الحقيقي الذي نريده للشرق الأوسط، يتمّ بإزالة الاحتلال الإسرائيلي والتحرر من هيمنة القوى الغربية على منطقتنا، والتخلص من عبيدها، وعملائها، مماسح الامبراطورية المستبدة.
مماسح تعبر عليها أميركا إلى عقر دارهم. ما ان تهترئ، ترميها وتستبدلها بغيرها.
يا قادة الأمة! غزة تُباد أمام أعينكم، تستصرخ ما تبقى من «ضميركم»، و»نخوتكم»، و»عروبتكم»، علكم تستفيقون من غيبوبتكم قبل فوات الأوان.
أجهضوا النكبة الكبرى التي يريدها لكم مجرم الحرب، ولا تكونوا له بوابة العبور، لأنه غداً سينقضّ عليكم، ويحفر لكم القبور…