تزامن وصول وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبد اللهيان يوم الجمعة من الأسبوع المنصرم مع سلسلة من هجمات المسيّرات الإسرائيلية على العمق اللبناني طالت مدينة النبطية وبلدة جدرا على ساحل الشوف مستهدفة كوادر من حماس وحزب الله.
أسقطت تلك الهجمات إلى غير رجعة ما سميّ خطأً بقواعد الإشتباك التي شاء من خلالها مستخدمو هذا المصطلح الإيحاء للبنانيين بأن ما يجري في الجنوب هو تحت السيطرة، وأن النفوذ الإيراني يشكل الركيزة الأهم لإستقرار لبنان في حدود اللعبة بين الأمّتين الفارسية والأنغلوسكسونية.
وبما يشبه ذر الرماد في عيون اللبنانيين أعلن عبد اللهيان بكل ثقة إستمرار الدعم الإيراني للمقاومة «إذ نعتبر أمن لبنان من أمن إيران والمنطقة».
فما هي عناصر القوة التي لا زالت طهران تتمتع بها؟ وما هي القيمة المضافة لهذا الربط في ظلّ ما يجري في المنطقة؟
طبعاً هي ليست المرة الأولى التي يسمح فيها غياب الدولة استخدام لبنان كمنصة متاحة لكل طامح إقليمي يتستسيغ حيازة أمن لبنان وإلصاقه بالعناوين الكبرى في المنطقة لتأكيد فوقيته في النضال وأحقيته في التحكم بمصير اللبنانيين ومستقبلهم.
فقد سبق وأُلصق أمن لبنان ومصيره منذ العام 1967 بأمن فلسطين، وأُعلنت المدن اللبنانية محطات على طريق فلسطين، كما أُلصق بعدها أمن لبنان بأمن سوريا في مرحلة الوصاية التي لم تبارح لبنان حتى بعد انسحاب قواتها المسلحة.
لم يضع اللبنانيون وعلى امتداد سنوات طويلة تلك الإملاءات وما تستبطنه من فوقية في خانة الوصاية على إرادتهم، إذ لامست تلك العناوين الكبرى في حينه الوجدان اللبناني فانساق اللبنانيون خلفها إستنهاضاً لعروبة ضاعت بين العروش والإنقلاب على العروش، والتحموا مع مقاوماتها ثأراً لظلم كرّسته القوى الكبرى وأدى إلى تقسيم المنطقة. أجل لقد طغى الموقف القومي على امتداد عقدين من الزمن على ما عداه، وانخرط اللبنانيون بأحزابهم ونقاباتهم وسائر متحداتهم الإجتماعية في خدمة القضية الفلسطينية متناسين أو ربما متجاهلين لكل الخصوصيات، اللبنانية منها والفئوية، فيما اعتقد أصحاب العناوين الكبرى من صانعي الهزائم والحروب الخاسرة أن اللبنانيين ليسوا أصحاب القضية وأهلها، بل هم متسلقون لجدرانها بحثاً عن هوية ضائعة أو هم متوسلون لانتماءٍ أسقطته لعبة الأمم. وبالتزامن مع كل التضحيات التي قدمها اللبنانيون بما لا يقارن بما قدم سواهم، كان لا بد ممن انقلبوا على الحريات والتنوع وأقاموا الأنظمة التوتاليتارية في العالم العربي أن وضعوا لبنان في موقع الشبهة الدائمة والقصور الوطني وأقاموا الحجر عليه حتى بلوغ «التعافي» ليستحق الدخول الى السجن الإقليمي الكبير.
تكرر المشهد عينه ولكن بوجه إيراني هذه المرة ليبلغ ذروته بعد العدوان الإسرائيلي في العام 2006 ومع إضطلاع الحزب بمهام عابرة للحدود تزامنت مع انهيار النظام في سوريا وانفجار الصراع في اليمن ليدخل لبنان الدولة دائرة الشبهة مجدداً وليدخل قراره السياسي عنق الزجاجة الإيرانية.
بالأمس القريب صمّ المسؤولون في لبنان آذانهم إزاء إعلان الوزير عبد اللهيان «أمن لبنان من أمن إيران»، إذ ارتاح بعضهم إلى هذا التحلل الإنسيابي للإرادة الوطنية وإلى فرض اصطفاف سياسي وأمني على لبنان مع كل ما يترتب على ذلك من مواجهات دولية وإقليمية ومن سقوط لأبسط مقوّمات الدولة والقرار الحر.
فيما يصمت البعض الآخر أمام ما يقال تجنباً لدخول دائرة التشكيك والتخوين ويختبئ وراء شعار التضامن مع غزة وضرورة الحفاظ على وحدة الصف !!!!.
بعد ربط أمن لبنان بأمن إيران إصطفى الوزير عبد اللهيان فريقاً من اللبنانيين دون سواه فأضاف «حزب الله والمقاومة في لبنان قاما بشجاعة وحكمة بدورهما الفعال الرادع». طبعاً لا يرقى باقي اللبنانيين ومن ضمنهم القيّمون على المؤسسات الدستورية إلى مستوى الشجاعة والحكمة المنشودة وهم خارج دائرة التصنيف ومحكومون بالإلتحاق بما يمليه الحزب أو على الأقل فلا قيمة لخياراتهم الوطنية.
إزاء التدهور الواضح في المواقف الإيرانية بعد الحضور الأميركي الى المنطقة وإلتزام طهران النأي بالنفس عن كل ميادين المواجهة والتنصل من أي علاقة لها بعملية طوفان الأقصى وبما تقوم به أذرعها بما فيها حزب الله، يصبح من المتعذر إقناع اللبنانيين بالركون إلى شعارات سبق وأطلقها من قادوا المنطقة والقضية الفلسطينية إلى ما وصلت إليه من ضياع واحتلال وفشل.
ربما قدمت معادلة أمن لبنان من أمن إيران الكثير من المكتسبات لإيران لمحاكاة دول الإقليم والولايات المتحدة من الشرفة المطلة على فلسطين المحتلة والإطلالة على شرق المتوسط، ولكنها لم تقدم للبنانيين سوى المزيد من الإنقسام والتمرد على القانون والمؤسسات وسقوط منطق الدولة.
معالي الوزير، وصلت الى بيروت بعد فوات الآوان، لم نعد نبحث عن هوية أو انتماء ولا نستجدي حسباً أو نسباً. لقد تعلمنا أن أمن لبنان هو من أمن اللبنانيين دون سواهم.