السؤال الرئيسي في كيان الاحتلال الآن هو كيف يمكن المواءمة بين المصالح والقدرات “الإسرائيلية”، وبين تجسيد قدرة “إسرائيل” بالفعل على المس بحزب الله، وجباية ثمن باهظ منه وإبعاد قواته عن الحدود، دون أن يؤدي ذلك إلى حرب شاملة في المنطقة الشمالية؟ هذا السؤال يبرز أكثر إزاء حاجة العدو الاسرائيلي إلى تمكين سكان الشمال، الذين تم إخلاؤهم من العودة إلى بيوتهم، مع ضمان أمنهم وشعورهم بالأمان. انه سؤال معضلة لا جواب عنه حتى الساعة، ولهذا تبقى كل الاحتمالات واردة، واحلى الخيارات مر بالنسبة “للاسرائيليين”.
وفي هذا السياق، تلفت مصادر ديبلوماسية الى ان ثمة عاملين دخلا على الخط خلال الساعات القليلة الماضية: – الاول ما كشفت القناة الـ 12 “الإسرائيلية” عن قائمة مطالب بعث بها الوزير “المعارض” في مجلس الحرب “الإسرائيلي” بني غانتس، الذي يهدد بمغادرة الحكومة، إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وتطرق فيها إلى جملة من القضايا الحاسمة لاستمرار الحرب في غزة ، لكنه طالبه ايضا بتحديد سقف زمني للمفاوضات الديبلوماسية بالنسبة للوضع على الحدود مع لبنان، وذلك في اطار رفع منسوب الضغط على نتانياهو للاجابة عن اسئلة “اليوم التالي” في غزة، “اليوم الراهن” في جنوب لبنان.
الثاني: اعلان “الجيش الإسرائيلي” انتهاء مناورة تحاكي شن هجوم واسع على لبنان. وفي اطار المناورة التي استمرت عدة أيام، أجرى جنود الاحتياط من الكتيبة 5030 في اللواء 228 في حضور متعمد للمراسلين العسكريين من مختلف وسائل الإعلام “الإسرائيلية”، تمرينا يحاكي هجوما واسعا على الجبهة الشمالية في “رسالة” مزدوجة: واحدة لطمأنة الجمهور “الإسرائيلي”، وثانية لـ “ردع” حزب الله. لكن لا الطمانينة عادت الى المستوطنين، ولا حزب الله تم ردعه. وقد اختصرت مراسلة صحيفة “هآرتس الاسرائيلية” الوضع في الشمال بالقول “ان المسألة لا تتعلق بعدم وجود حياة في المنطقة، او عدم وجود استراتيجية، بل بات السكان بالمناطق الحدودية والجليل الأعلى يشعرون أن حسن نصر الله وصل الى الحد الذي يحدد فيه متى وأين يمكنهم دفن أحبائهم، وعدد المشاركين في الجنازة وموعد الدفن”. ووفقا لتلك المصادر، في الوقت الحالي يجري القتال في الشمال بقوة كبيرة، وفعلياً هذه حرب استنزاف متبادلة، ولكنها ليست شاملة حتى الآن، حتى لو بقيت إمكانية التدهور إلى حرب شاملة قائمة، ولكن للطرفين عوامل كابحة من الداخل والخارج، لا سيما الضغط الذي تستخدمه الولايات المتحدة على “إسرائيل” لمنع حرب إقليمية، في الوقت الذي تضغط فيه لايجاد حل سياسي يؤدي إلى وقف الحرب في غزة. في المقابل، لا يبدو أن حزب الله معني بحرب شاملة في هذه المرحلة، لكن يبقى القلق مشروعا من تحول استراتيجية “إسرائيل” من تعاملها في هذه المرحلة مع الساحة الشمالية كساحة ثانوية الى ساحة رئيسية، بعد الانتقال الى المرحلة الثالثة في غزة والذب يمنحها هامش مناورة لمواصلة نشاطاتها على نحو اكثر كثافة اتساعا في الشمال.
والمقلق في هذا السياق، عدم قدرة الولايات المتحدة على التحكم بقرارات وزارة الحرب “الاسرائيلية” التي يخوض نتانياهو من خلالها معركة “حياة او موت” على الصعيد الشخصي، كما ان أدوات الضغط السياسية على حزب الله محدودة، وليس في اقتراحات الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين، ما يمكن أن يغري أو يدفع الحزب إلى وقف إطلاق النار والموافقة على انسحاب قواته من الحدود، خصوصاً مع استمرار القتال في قطاع غزة، واللافت في هذا السياق، ان رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي يتماهى باسم الحكومة، مع موقف الحزب عبر مطالبته بوقف القتال في قطاع غزة، قبل الشروع في تثبيت الحدود البرية. ووفقا للاعلام “الاسرائيلي”، هناك انقسام داخل حكومة الحرب بين وزراء اليمين الذين يريدون زيادة النشاطات العسكرية بشكل منهجي وحازم، بهدف المس بشكل كبير ببنى حزب الله التحتية وبقوة الرضوان، وهم يرون ان ثمة فرصة لمنع السيد نصرالله من تغيير قواعد الاشتباك، وهم يريدون ايجاد وضع جديد على طول الحدود عبر حرب واسعة. في المقابل، ثمة فريق آخر مقتنع بافكاراميركية تشير الى امكانية الوصول في المرحلة الأولى الى اتفاق يتم تنفيذه عقب وقف الحرب في غزة، يسمح بعودة سكان الشمال الذين تم إخلاؤهم إلى بيوتهم، وخلق أساس متفق عليه بخطوات سياسية في المستقبل، انطلاقا من الترسيم البري، وترتيب الوضع على طول الحدود على المدى البعيد، وفي الوقت نفسه سيبقى في يد “إسرائيل” قرار هل ومتى سيتم الدفع قدماً بعملية عسكرية واسعة من أجل إزالة تهديد حزب الله؟!
تبدو “اسرائيل” تحت الضغط، وفي حيرة من امرها، ولا تعرف كيف تتعامل مع جبهة ظنت انها لن تكون مؤثرة، وباتت اليوم خطرا استراتيجيا تحت الضغط الشعبي، وفي ظل تشكيك الجمهور “الإسرائيلي” في تصريحات المستوى السياسي بأن حزب الله بات مردوعا، المطلوب من الجيش ان يوسع عملياته وغاراته بالعمق اللبناني، باعتبار أن “إسرائيل” لا تستطيع أن تسمح لنفسها بوضع يعيش فيه سكان الحدود الشمالية والجليل الغربي تحت التهديد الأمني المستمر من لبنان. في المقابل، تدرك “اسرائيل” ايضا ان حزب الله يستخدم ترسانة سلاح محدودة جدا، ويهاجم بصواريخ مضادة للدروع وقذائف مدفعية وصواريخ قصيرة المدى “البركان” والمسيرات، ويحرص الحزب الحفاظ على معادلات كثيرة طي الكتمان لتكون مفاجئة للحرب المقبلة، ومنها الصواريخ الباليستية الدقيقة. وللمفارقة ان الحرس الثوري الايراني قام باختبار عملي لصاروخ “فاتح واحد”، الذي حرص “الموساد” على تتبع مدى دقة اصابته للاهداف في اربيل، وتبدو النتائج باهرة، ما زاد القلق داخل الاجهزة الامنية “الاسرائيلية” التي تعرف جيدا ان مخازن حزب الله لم تعد تتسع لصواريخ جديدة من هذا الطراز، وباتت تعرف جيدا معنى قول السيد نصر الله في خطابه الاخير انه سيخوض حربا دون ضوابط وسقوف. المنطقة تغلي وفي مياهها واجوائها زحمة صواريخ، ما دفع غرانت شابس، وزير الدفاع البريطاني، الى التحذير من ان” العالم يتحوّل من عالم ما بعد الحرب إلى عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية”.