وكأن دولتنا المترفِّعة عن معالجة نفاياتها، بغنى عن اجتذاب مصادر إضافية للدخل العام. وكأن «برستيجها» لا يسمح بالتقاط ما تيسّر من مال ناتج عن إدارة صحيحة للنفايات، فتُركت الشوارع والأزقّة والأحياء لتضيق بمستوعبات أهمِلت ففاضت فانطلقت تلوِّحُ بإفلاس بيئي عام يشبه المطامر غير الصحيّة.
انطلاق صفّارة الإنذار البيئية في أقضية الشوف وعاليه وبعبدا استدعت تحركاً سريعاً لنواب المنطقة، بعدما سبقهم بأيام قليلة نواب ومسؤولون من صيدا، التي كانت تئن من وطأة سحب اتفاق بلدياتها الرضائي مع شركة سيتي بلو من جلسة مجلس الوزراء في كانون الأول الماضي. اجتمع الجميع، على مراحل، مع وزير البيئة ليحصلوا على نهايات سعيدة للأزمة المتجذرة. وأي نهاية كانت؟
على صفحته على موقع فايسبوك، كتب وزير البيئة قبل أسبوع: «تفادينا أمس أزمة النفايات في الشارع بالتعاون مع اتحادات البلديات ونواب أقضية بعبدا، عاليه والشوف، وبقي مطمر الكوستابرافا يعمل». ليعود ويطمئن الى أن «تشغيل معمل العمروسية بعدما توقف منذ ثلاث سنوات… سيكون من الأمور السريعة التي سننفذها» وختم أن ذلك سيكون جزءاً من الخطة التي أعدتها الوزارة بالتعاون مع البنك الدولي لتحقيق حل مستدام لأزمة النفايات يرتكز على اللامركزية في إدارة القطاع.
الوزير السابق، النائب أكرم شهيب لم يجد خطوة على طريق إنجاز الخطة التي أعدتها الوزارة، بل يعتبرها حلاً مؤقتاً يفسح المجال أمام إيجاد الحل النهائي. وقال لـ «نداء الوطن» إن ما حصل هو إطالة عمر مطمر الكوستابرافا لتأخير وقوع الأزمة وعودة النفايات الى الشوارع. والعمل على تفعيل الفرز من المصدر، وتجديد معمل العمروسية الذي سيكلف الدولة أربعة ملايين دولار، لكنه يقلّل نسبة الطمر في الكوستابرافا بين 10 و12%، ثم تفعيل دور معامل الفرز التي تديرها إتحادات بلديات أو بلديات في تلك الأقضية.
أما مخطّط وزارة البيئة، فيتطلب تنفيذه قرارات سياسية، وإمكانيات مالية، وبرأيه أنها ما زالت بحاجة لوقت أطول حتى تتحقق. وقبل أن نضع أقدامنا على طريق الحلّ المستدام يجب إصدار قوانين جديدة وتعديل أخرى، كأن تلحظ غرامات على المسبب بالتلوث، ودفع بدل عن إنتاج النفايات، واعتماد مبدأ المكافآت في الوجه المعاكس للغرامات، وهذا ما تعمل عليه الوزارة مع لجنة البيئة النيابية. لكن المشكلة ستبقى معقّدة أكثر في نفايات بيروت والضاحية الجنوبية، إذ لا مساحات متاحة لأي عمل يتعلق بمعالجة النفايات.
ليعود ويؤكد، أن في الوقت الحالي لا قدرة مالية للدولة على إدارة هذا القطاع بصورة مثالية، كالحرق الصحيّ والتسبيخ والفرز الكامل، لذلك لا بدّ من اللجوء الى الطمر الصحي في هذه المرحلة. معتبراً أن ملف النفايات بشكله الحالي «ضايع» بين عدّة وزارات، ولن يستقيم العمل به إلا من خلال إنشاء الهيئة الوطنية لإدارة النفايات الصلبة، لتكون مسؤولة عن إدارته من ألفه الى يائه، فتختار الخطة التي يتوجب عليها تنفيذها.
ويتابع، حتى ذلك الحين لا بدّ من تشجيع المبادرات المحليّة والمشاريع الصغيرة، وتفعيل دور الجمعيات البيئية للمساعدة على الحدّ من وطأة الأزمة.
نشطت في الأعوام القليلة الماضية الجمعيات البيئية، محاولة ملء الفراغ الذي تركته الدولة اللبنانية بعدما فشلت بإدارة ملف النفايات المنزلية الصلبة، ما رتَّب على خزينتها فاتورة صحية باهظة، وأخرى بيئية لا تقدَّر بثمن. فكانت المبادرات والمشاريع الصغيرة بارقة أمل للحدّ من تفاقم الأزمتين البيئية والاقتصادية.
زيرو ويست، جمعية بيئية تنشط في قضاء الشوف وتعمل بالتنسيق مع بلديات القضاء. شكلت مع مبادرات أخرى دائرة مكتملة لمعالجة ما يمكن من النفايات المنزلية. تتحدث نبال الداهوك عن تجربة الجمعية مع بلدية بشتفين فتقول، أنشأت البلدية مركز فرز نهائي للنفايات القابلة لإعادة التدوير، وتعاقدت مع شركة خاصة لإنتاج الكومبوست من النفايات العضوية، بحيث يحصل كل شخص مقابل النفايات التي يرسلها على قسائم شرائية من متجر بيئي، أنشئ لهذه الغاية. وتطمح الجمعية الى توسيع نطاق المشروع ليشمل بلديات أخرى.
لا تخفي الداهوك أن الجمعية، كما غيرها من الجمعيات، تواجه تحديات مالية وسياسية، لكنها تأمل أن تتعمم هذه التجربة على كل القضاء، وتتحقق لامركزية إدارة النفايات في إطار تعاوني بين الجمعيات والدولة والبلديات.
يقول الناشط البيئي نبيل سري الدين عن الخطة التي تعدها وزارة البيئة حالياً، بأنها تذهب بالوجهة الخاطئة، لأنها مرتكزة على «تنفيع» الشركات الخاصة، فالنفايات عبارة عن فضلات تجني أموالاً طائلة.
إدارة الملف في الوقت الحالي يسير بالاتجاه المعاكس، فبدل أن تنطلق الحلول من الوزارات المعنيّة، وتتعمم على البلديات، مع التمويل اللازم، يُلقى هذا العبء على عاتق البلديات وحدها، وهذه الأخيرة تعمل اليوم بإمكانيات مالية معدومة، وبالتأكيد لا يمكنها تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقها.
رغم ذلك، تبنّت الجمعيات البيئية العناوين الأساسية لخطة الوزارة، وتمكنّت من الحصول على تمويل من الجهات المانحة، لكنها في الحقيقة مسؤولية الدولة اللبنانية. أما الجمعيات فيجب أن ينحصر دورها في تعميم ثقافة الفرز الصحيح، وحملات التوعية، والتدريب.
أما عن نفايات المستشفيات، فيقول، بالرغم من خطرها الشديد فهي لا تشكل أي أزمة حالياً، فهناك جمعيات تأخذ 80% من هذه النفايات وتحولها الى نفايات غير مؤذية لتعيد تدويرها بشكل آمن. والباقي يتم التخلص منه في محارق صحيّة أنشأتها المستشفيات الكبيرة.
ثم تابع منوهاً بدور محمية أرز الشوف في معالجة النفايات العضوية وبقايا الأغصان، وتحويلها الى سماد عضوي، يباع للمزارعين بأسعار مخفّضة.
قبل العام 2015 لم يكن أحد يسأل كيف تعالَج النفايات في لبنان، طالما المدن نظيفة، والقرى والبلدات خالية من المخلّفات. وحدهم أهالي التجمعات السكنية القريبة من المكبات والمطامر كانوا يعانون، ويرفعون الصوت، ويناشدون. وكانت سوكلين (الشركة المكلفة بجمع نفايات بيروت وجبل لبنان) تتقاضى على مرّ أعوام (من العام 1996 حتى 30 نيسان 2018) 40% من مجموع المبالغ العائدة للبلديات من الصندوق البلدي المستقلّ. تلك العائدات تبلغ معدلاً وسطياً تقريبياً يصل الى 230 مليار ليرة لبنانية سنوياً، استناداً الى المراسيم التي ترعى التوزيع. أي أن معدّل حصة سوكلين منها كان 92 مليار ليرة سنوياً، ما يعادل 61 مليون دولار في حينه.
وفق تقرير صادر عن وزارة البيئة، ينتج كل فرد بشكل وسطي 900 غرام من النفايات المنزلية الصلبة يومياً. تتوزع على النحو التالي: 51% مواد عضوية، 17% ورق وكرتون، 10% بلاستيك، 9% زجاج، 3% معادن، 3% منسوجات، 7% مواد أخرى أو عوادم (غير قابلة للمعالجة).
ويتابع التقرير أن مصير هذه النفايات هو على الشكل التالي: 8% يعاد تدويرها، 8% تسبيخ (تحلل بيولوجياً)، 36% تذهب الى مكب عشوائي، 48% تذهب الى مطامر صحية.
يقيم على الأراضي اللبنانية حالياً ما يقارب الثمانية ملايين شخص، بحسب ما نقله الموقع الرسمي للجامعة اللبنانية في تموز 2023 عن الدكتور علي فاعور أستاذ الجغرافيا في الجامعة اللبنانية ورئيس مركز السكان والتنمية. ما يدلّ على أن لبنان ينتج يومياً ما يقارب 7200 طن من النفايات المنزلية. منها 3672 طناً مواد عضوية قابلة للتسبيخ، 1224 طناً من الورق والكرتون، 720 طناً من البلاستيك، 648 طناً من الزجاج، 216 طناً من المعادن، 216 طناً من المنسوجات، وأخيراً 504 أطنان من العوادم.
نحمل هذه الأرقام ونتوجه الى أحد تجار الخردة. ربيع، يملك شاحنة صغيرة ويجوب بها قرى الشوف وعاليه وجزين والبقاع الأوسط بحثاً عن معادن وبلاستيك وكرتون وغيرها، حيث يشتريها من السكان ويبيعها بدوره لتجار. نسأله عن أسعار المواد الأساسية والأكثر شيوعاً، فيجيب والأسعار للطن: الأدنى هو للزجاج يتراوح بين 40 و50 دولاراً. بعده الألمينيوم والكرتون 100 دولار. ثم البلاستيك 250 دولاراً، والحديد 350 دولاراً، أما النحاس فيتراوح بين 5000 و7000 دولار، لنصل الى المخلفات الالكترونية وهي الأعلى، فسعر الطن منها يتعدى أحياناً الثلاثين ألف دولار (مثل: Rams,Circuit boards).
بعملية حسابية بسيطة لم تكن بحسبان الحكومات اللبنانية، يتضح أن الدولة ترمي ما يزيد عن 400 الف دولار يومياً. هذا إن باعت الدولة مفروزات نفاياتها لـ «ربيع»! أما إذا اعتمدت الطرق القانونية في التلزيم، فربما تحصل على أسعار أعلى.
أما النفايات العضوية التي قد تصل الى 3672 طناً يومياً، فينتج عنها ما يزيد عن 2000 طن من السماد العضوي. وبما أن سعر الطن الواحد منها في لبنان يتراوح بين 150 و200 دولار، بكلفة إنتاج لا تتعدى ربع المبلغ، فيمكننا احتساب الربح الناتج عن الطن الواحد بـ 130 دولاراً، أي 260 ألف دولار يومياً. فيكون مجموع الدخل الناتج عن فرز ومعالجة النفايات 660 ألف دولار يومياً.
وفقاً لما ورد في ورشة العمل التي نظمتها الحركة البيئية اللبنانية بالتعاون مع وزارة البيئة في أيلول الماضي، تبلغ تكلفة معالجة الطن الواحد 35 دولاراً. وكانت قد قدّرت تكلفة جمعه ونقله بـ33 دولاراً في وقت سابق، لتكون التكلفة الإجمالية لنقل ومعالجة 7200 طن: 489600 دولار. إذا تم حسمها من السعر المقدّر للبيع بعد الفرز والمعالجة، نحصل على 170400 دولار كربح صافي يومي ناتج عن إدارة سليمة لملف النفايات المنزلية الصلبة. ما يفوق الخمسة ملايين دولار شهرياً. بالإضافة الى فرص العمل التي تؤمنها كل هذه الأنشطة.
طريق الوصول الى صفر نفايات بحسب التجارب العالمية الناجحة، يبدأ بالفرز من المصدر، ليصل الى إعادة تدوير كل ما يمكن تدويره، وتحويل بقايا الأغصان الى وقود، ثم تحويل النفايات العضوية الى غاز أو الى اسمدة. ترميد النفايات السامة أو الخطرة. وفي النهاية لا بدّ من طمر الرماد والعوادم، مثل الركام الناتج عن عمليات البناء، وغيرها، وهي لا تشكّل أكثر من 7% من الكمية الإجمالية.
هل يمكن أن يتحقق ذلك في لبنان؟ يقول المثل الشعبي: «إذا بدّك بلد يخرب دعي عليه بكترة الرؤوس». صفر نفايات، وعد قديم… وخطة واعدة بغد أفضل. على طريقة زياد الرحباني نسألهم: «كم بكرا صار مارق من وقتا لليوم وبعد ما عرفنا بالنسبة لبكرا شو؟»