أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة، في مقر المجلس، والقى خطبة الجمعة التي قال فيها: “ايها الأخوة، من البديهي القول أننا كمؤمنين لا ننطلق في حياتنا ومواقفنا وأعمالنا من فراغ، وإنما على اساس رؤية مبنية على اعتقاد وإيمان وإلا فلا معنى لأن نقول (أننا كمؤمنين)، وهذا الايمان يتلخّص في رؤيتنا لحقيقة الوجود في هذا الكون بما فيه وجودنا كمخلوقات وطبيعة العلاقة والارتباط بيننا كبشر من ناحية وبين الموجودات الاخرى من ناحية ثانية والوظيفة التي يتوجب علينا بمقتضى هذا الإيمان القيام بها. وعلى هذا الأساس يوجد عدة ثوابت:
الثابتة الاولى، أن هذا الوجود حقيقة لا تقبل الشك، فهو ليس وهماً ولا تخيّلات.
الثابتة الثانية، ان له موجداً وهو الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له، وانه ازلي ابدي.
الثابتة الثالثة، أن كل ما في هذا الوجود هو في خدمة الإنسان وانه أفضل وأكرم المخلوقات. {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.
الثابتة الرابعة، أنّ الله سبحانه بمقتضى حكمته حدّد لهذا المخلوق وظيفةً يقوم بها وهي وظيفة الخلافة له في الأرض، وهي نوع من الوكالة في التصرّف المحدد الذي يقتضي من الوكيل أن يلتزم التصرّف وفق الحدود التي حدّدها له الموكِّل لا لمصلحته، بل لمصلحة الوكيل الذي هو الانسان وليست على نحو التفويض بالتصرّف المطلق ووفق ما يشتهي، والا انتهت الغاية من هذا الخلق والإستخلاف كما سيأتي في الثابتة السادسة.
الثابتة الخامسة، أن الارادة الإلهية ستتحقق وليست مرتبطة بتخلف الأمة عن القيام بواجبها. قال تعالى: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا}”. إنّ نتيجة التخلف عن القيام بالوظيفة الإلهية تصيب بنتائجها السلبية الامة التي تخلفت وعصت وهو عذاب اليم، اما دين الله تعالى وسننه فهي ماضية ومتحقّقة على نحو القطع والجزم على يد أمة اخرى يستبدل الله المتخلفة بها.
الثابتة السادسة، انّ وراء هذا الإستخلاف غاية تستدعي أن يكون المستخاَلف مسؤولا ًأمام المستخلِف وهو الله سبحانه وتعالى فهو تكريم له أولاً، وثانياً يستدعي المساءلة منه تعالى له والمحاسبة عليه. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}. والمحاسبة هي من تبعات التكريم فالذي لا يحاسب هو غير المؤهل لتحمل المسؤولية وهو إما فاقد للعقل أو فاقد للقدرة والله سبحانه زوّده بكليهما.
الغاية الثابتة السابعة النهائية للخلق هي الاختبار. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}. ونبلوكم اي نختبركم، وهو من تبعات التكريم، فبعد ان جعلكم خلفاء في الارض وزوّدكم بالمؤهلات التي تستدعيها مسؤولية الخلافة ابتلاكم بالخير والشر ليرى منكم أثر هذا التكريم وتفعيلكم له بالاختبار، فإما أن تكونوا أهلاً لهذا التكريم بالنجاح في القيام بهذه الوكالة بالتصرف في خيرات هذا الكون أو تفشلوا، وهناك نتائج وتبعات في كلا الحالتين وتحمّلٌ لمسؤولية النجاح والفشل كمن تعطيه إمكانيات وقدرات للقيام بمشروع ما ثم يتصرّف بهذه القدرات والطاقات بغير ما كُلّف به، أو اهدرها باللهو والعبث واتباع أهوائه وغرائزه واستخدمها في الفساد والافساد فهل يستحق المحاسبة ؟ وهل من العدل أن يترك دون أن يتحمل مسؤولية ما جنته يداه؟”.
واكد العلامة الخطيب “ان المسؤولية هي الاساس وأن يكون الإنسان فرداً أو جماعةً مسؤولاً، هي القاعدة التي يجب الاحتكام إليها، أما الحرية التي أصبحت شعاراً وقاعدة الانطلاق في الحكم على الأمور فهي قلب للمفاهيم وتزوير لها وتلاعب بالعقول”.
وقال: “إنّ حرية التصرّف والقدرة على الاختيار من مترتبات المسؤولية فلا مسؤولية بلا قدرة على الاختيار بين فعل الخير والشر وبين ما يصح فعله وما لا يصح حتى تصح المحاسبة، ولكن اختيار الشر والظلم والعدوان والتفلّت من القيم والتصرف من دون ضوابط فهذا ليس حقاً وإنما فوضى وفساد وإفساد وهو ما لا يرتضيه عقل أو شرع، وهي الثقافة التي عُمل بخبث على بثّها في عقول شبابنا وشاباتنا بالتفلّت من الضوابط والقيم الاخلاقية والاجتماعية والدينية بالتمسّك بشعار الحرية وأنا حرّ، ولم يقتصر الامر على ذلك، بل شُنّت حرب إعلامية شعواء لإشاعة هذه الثقافة وتسخيف الثقافة الأصيلة ثقافة المسؤولية والانضباط الأخلاقي والتمسّك بقيم مجتمعاتنا واعتبارها لا تجاري العصر والتقدم العلمي زوراً وتجهيلاً وفجوراً، فما الرابط بين القيم والاخلاق وبين التقدم العلمي والتقني؟ وهل منعت القيم الاخلاقية والتعاليم الدينية الاسلامية خصوصاً من التعلم والاختراع والتقدم العلمي والصناعي؟ وهل سمعتم يوماً أن عالما لدينا اُعتقل أو أُعدم بحكم ديني بسبب نظرية علمية؟ ولماذا التعميم للمشكلة التي عاشتها أوروبا إلى العالم العربي والإسلامي؟.”
وتابع: “إنّ الخلط بين الإسلام كدين ومعرفة وثقافة أخلاقية واجتماعية وبين فعل المسلمين وكسلهم وجهلهم وفساد حكّامهم ناتج عن الجهل، بل هو الجهل بعينه الذي يدعوهم إلى تقبّل الأقاويل والافتراءات بدون تدبّر أو مسؤولية فلا يلقينَ مسؤولية جهله وتخلّفه بالافتراء على دينه وتاريخه وحضارته، وأن يكونوا أدوات طيّعة وسهلة للحرب الثقافية الاستعمارية الغربية الأخطر بعد حروبه العسكرية للسيطرة، لأنها السلاح الأقوى الذي تستمد منه أمتنا قوتها وتستعيد عزيمتها وتسترجع استقلالها بعد كبوتها التي حدثت بسبب تخليها عن قيمها وتخليها عن مسؤولياتها أمام الانحرافات الخطيرة للحكّام المستبدين وتعطيلهم تطبيق أحكام الله واهتمامهم بالدنيا وتنازعهم على الملك والسلطة كما هو حاصل اليوم في لبنان من فساد السلطة وتفكك الدولة، فهل الدين هو المسؤول؟ وهل أن الحكام يستندون في تصرفاتهم إلى الشرع واحكامه؟ أم أن اللبنانيين تطيّفوا بسبب سوء النظام القائم على الطائفية التي شكلت دويلات لزعماء الطوائف وحولت الدولة الى هيكل فارغ؟”.
اضاف: “يريدون الانقضاض على ما تبقى من قيم أخلاقية تُشكّل المدماك الأساس للمحاسبة وتحمل المسؤولية، إنّه فجور مدعوم بسلاح أخطر من سلاح المدمرات والمدافع والصواريخ والدبابات، إنها لأخطر من سلاح التدمير الشامل النووي، إنه تدمير القيم الاخلاقية والانسانية التي كانت الأساس الذي استندت اليه مقاومة شعبنا في مواجهة العدو الإسرائيلي، وكان السلاح الأمضى الذي حقّق له الانتصار التاريخي في الخامس والعشرين من ايار بالأيمان والاتكال على الله ووعده بالنصر {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ}، {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}”.
ولم يكن بالاعتماد على السلاح الذي كان بسيطاً وما زال بالمقارنة مع ما يمتلكه العدو الصهيوني ومع ما يستند اليه من دعم القوى الدولية الغاشمة بالمال والسلاح والحروب النفسية التي هزمت النفوس الضعيفة، ولكنها لم تهزم المؤمنين والمتمسّكين بقيمهم فكتب الله لهم النصر والظفر والاقتدار الذي زلزل أقدام العدو الخائف والجبان القابع وراء الجدران والاسوار ليحتمي في الجحور خلفها بعد أن كان يعربد ويزبد ويهدّد فيرتجف من هم وراء الحدود بمئات الكيلومترات.”
وأكد الشيخ الخطيب “انّ ترددات انتصارات المقاومة في لبنان لم تقف تأثيراتها عند حدود لبنان الجنوبية، بل تعدتها الى صنع تحولات استراتيجية في المنطقة وكان أولها في فلسطين المحتلة في غزة والضفة والقدس وكل فلسطين، وأصبح العدو في مأزق وجودي خطير، وثانياً في وقف التطبيع، وثالثها وهو قادم حتماً في نهاية اتفاقيات ما يسمى بالسلام وينتهي بإزالة الكيان الغاصب المؤقت، حقاً المؤقت كما بدا واضحاً من سلسلة التراجعات التي أُجبر عليها بشكل متتابع وسريع وغير متوقع، فانكشف ضعفه وهشاشته فكان حقاً بيت العنكبوت”.
وقال: “إنّ محاولات إخافة بعض اللبنانيين من المقاومة هي إحدى الوسائل الخبيثة لهذا العدو والمرتبطين بالقوى الداعمة له، و على اللبنانيين أن ينتبهوا لها فهؤلاء لم يقدموا للبنان سوى الهزائم والحروب الاهلية، سلاحهم الفتن الطائفية وتخويف الطوائف من بعضها لمصالح فئوية وحزبية وشخصية ولبعض العائلات المستفيدة من الحكم ومغانمه، فلم يبنوا دولة ولم يحققوا استقراراً أو عدالةً أو إنجازاً لصالح الشعب اللبناني وقضاياه، ولم يرَ منهم اللبنانيون سوى الخراب والقتل والدمار والحروب الاهلية وإضعاف لبنان أمام العالم وأمام العدو الطامع في أرضه ومياهه وخيراته، وقدّموا له لبنان لقمة سائلة بحجة حماية طوائفهم، فلم يزيدوا هذه الطوائف الا رهقاً، أليس جديرا بالشعب اللبناني أن يستفيد من كل هذه التجارب ليستخلص العبر ويعرف سر المشكلة التي يعاني منها لبنان وشعبه وانها الطائفية؟ وأن الطوائف ستكون بخير اذا تخلصت من هذه الآفة ومن المتمسكين بها ليتزعموا طوائفهم وليسرقوا كلما احتاجوا جهدهم وجنى عمرهم بإشعال الحروب الطائفية.”
اضاف: “قولوا لي بالله عليكم من هو الأخطر على الطائفة؟ الطوائف الاخرى أم متزعميهم الذين اقتتلوا في ما بينهم فقُتل منهم اكثر ممن قُتل بالحرب الطائفية؟ وهُجر منهم اكثر من هُجر لأي سبب آخر. واليوم من الذي يمنع انتخاب رئيس للجمهورية ويعطل الانتخابات؟ أليست المشكلة في من يدعي حماية الطائفة والمتنازعين عليها؟”.
وختم الشيخ الخطيب: “إنّ المطلوب هو الضغط على المعطلين للخروج أولاً من هذه الازمة لأن هؤلاء لن يذهبوا للحل الا بالحصول على منافعهم في الحكم بالابتزاز”.