ليس هناك ازدواجية في المعايير لدى الغرب، فهو يمتلك معياراً واحداً في اتخاذ مواقفه؛ الانحياز إلى مصالحه، وهذا ما يجعله يتخذ موقفين مختلفين صورياً، ولكنهما متطابقان جوهرياً لجهة المنفعة له ولحلفائه والإضرار بخصومه.
لعام ونصف عام، كانت الحرب الروسية الأوكرانية تتصدر عناوين الصحف ونشرات الأخبار، وحتى أحاديث الناس، حتى اصطلح البعض على تسميتها بالصراع الأطلسي – الروسي، لما رأيناه من حشد سياسي وعسكري واقتصادي وإعلامي غربي في وجه روسيا.
اليوم، لا تكاد الحرب الأوكرانية تذكر مع مواصلة “إسرائيل” عدوانها على قطاع غزة، مرتكبة المزيد من المحارق الحقيقية على مرأى ومسمع من العالم كله.
فجأة، نسي الغرب “التهديد الروسي” موجهاً اهتمامه إلى “إسرائيل”، على اعتبار أنها “امتداد للغرب” و”الطفل المدلل الحقيقي” منذ أكثر من مئة عام، سامحاً بقطع المياه والكهرباء والطعام عن أكثر من مليونين ونصف مليون إنسان في القطاع، ما أعاد إلى الأذهان التصريحات الغربية التي دانت روسيا خلال حربها مع أوكرانيا، فيما وَصفتْ ما تقوم به “إسرائيل” “بالدفاع عن النفس”.
ولعل أوضح التصريحات تلك التي أتت على لسان رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، التي اتهمت روسيا بقتل الأطفال واستهداف المستشفيات والمدارس، داعيةً إلى مواجهة ما وصفته “بالإجرام الروسي”، قبل أن نراها في “تل أبيب” تقف إلى جانب رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو وتقدم له الدعم غير المشروط.
وإن كان الأمر ليس مستغرباً بالمطلق، فمن نتحدث عنها متهمة بالفساد، حتى إنها لم تتوانَ عن إلقاء اللوم في القصف الذري الأميركي على هيروشيما على روسيا!
ومن جديد، عادت لازمة “ازدواجية المعايير” الغربية إلى الواجهة.
ما يحرّمه الغرب على الروس في أوكرانيا يبيحه لـ”إسرائيل” في قطاع غزة، ولكن هل هناك فعلاً ازدواجية في المعايير؟ وهل هناك وجه شبه بين ما يحصل في أوكرانيا وغزة، كما يشير البعض؟
الخروج عن السياق التاريخي
في الواقع، ليس هناك ازدواجية في المعايير لدى الغرب، فهو يمتلك معياراً واحداً في اتخاذ مواقفه؛ الانحياز إلى مصالحه، وهذا ما يجعله يتخذ موقفين مختلفين صورياً، ولكنهما متطابقان جوهرياً لجهة المنفعة له ولحلفائه والإضرار بخصومه، وهذا ما رأيناه في الحرب الروسية الأوكرانية وفي العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
لسنا هنا في معرض تبرير ما قامت به روسيا من عملية عسكرية في 24 شباط/فبراير 2022، ولكن ما يجب قوله إنَّ الحرب لم تأتِ من فراغ، بل أتت في سياق تصعيدي غربي أريد منه عزل روسيا وتطويقها. لا يمكن أن تتنظر من دولة ترى أن أمنها القومي مهدد عبر تمدد “الناتو” بأسلحته أن تقف مكتوفة الأيدي.
كما لا يمكن أن تطلب من دولة كروسيا أن تثق بنيات الدول الغربية بعدما كانت قد وُعدت بأن حلف شمالي الأطلسي لن يتمدد شرقاً، فخبِرت ما هو عكس ذلك.
الأمر نفسه ينطبق على قطاع غزة، لا على “إسرائيل”.
لا يمكن القول إنّ من حق “إسرائيل” الدفاع عن النفس.
بدايةً لأنها كيان محتل، وثانياً لأن مَنْ قام بعملية “طوفان الأقصى” هو ذلك المحاصر منذ أكثر من 17 عاماً، مع كل ما يتضمن الحصار من ويلات. باختصار، لا يمكن إخراج العملية من سياقها السياسي والأمني، وحتى الاقتصادي، كما يفعل الإعلام الغربي ويصر عليه عن خبث.
ولا يمكن أن تقول للغزاوي ولمقاومته ليس لديكما الحق في الدفاع عن الحياة والأرض. وبناء عليه، ما تتم الإشارة إليه من وقت الى آخر عن حسن أو سوء نية بأن ما تتعرض له غزة هو نفسه ما تعرضت له أوكرانيا هو محض قراءة غير منطقية للحالتين.
المقارنة بين غزة وأوكرانيا من جهة، و”إسرائيل” وروسيا من جهة ثانية، هي استهانة بعقول الناس ومعرفتهم بالتاريخ، وهي جزء من عملية “القياس الفاسد”.
لماذا نقارن “إسرائيل”، الكيان المصطنع الذي أُقحم بطريقة شاذة في منطقتنا، بروسيا صاحبة التاريخ العريق والحضارة الممتدة التي كانت أوكرانيا بأكملها جزءاً منها حتى عام 1991م.
قتل المدنيين
لا تجوز المقارنة بين ضحايا أوكرانيا وشهداء غزة لأكثر من سبب، ولكننا سنبدأ بما توضحه الأرقام.
وفقاً لتقارير وزارة الصحة الفلسطينية، فإن عدد الشهداء في القطاع اقترب من 11 ألفاً. وبحسب مكتب الإعلام الحكومي في غزة، وصل إلى 11500، بينهم أكثر من 4 آلاف طفل وقرابة 3 آلاف امرأة، فيما تجاوز عدد الإصابات 30 ألف إصابة.
كل ذلك خلال 38 يوماً فقط، فيما الأرقام الآتية من أوكرانيا تشير الى أن عدد القتلى بلغ 9806 خلال سنتين تقريباً من الحرب، ما يعني أن القفز فوق العامل الزمني هو محض إجحاف بحق القطاع وأهله ومعاناتهم.
أما العامل المكاني، فلا يقل أهمية؛ فغزة ليست دولة، إنما قطاع من فلسطين السليبة.
وعلاوة على ذلك، هي محاصرة من الاحتلال والشقيق المصري، في حين أن أوكرانيا دولة كاملة الأركان ضُخت فيها الأسلحة الغربية، ولا تزال، والهدف هو مواجهة روسيا ومحاولة الانتصار عليه بما تمثل (75 مليار دولار قيمة المساعدات الأميركية فقط لأوكرانيا).
اتهامات بالنازية
وهنا نأتي إلى ما يحاول البعض المجادلة فيه، ويتلخص بالقول إن صفة “النازيين الجدد في أوكرانيا” دعاية روسية لا أكثر ولا أقل، ويستشهدون بيهودية الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي لدحض ما يعتبرونه ادعاءً.
بعيداً من الممارسات الحربية على الأرض وأخلاقياتها، سنقوم هنا بذكر مؤشر على سبيل الذكر لا الحصر.
لا يمكن تجاهل تكريم شخصية مثل ستيبان بانديرا من قبل عدد كبير من الأوكرانيين وأعضاء في البرلمان الأوكراني في لفيف؛ فالرجل، وهو مؤسس “منظمة القوميين الأوكرانيين” النازية عام 1942، حاز تكريماً أوكرانياً أكثر من مرة، ومنح وأتباعه لقب “محاربي الاستقلال” من السلطات الأوكرانية.
وليس ذلك إلا دليلاً قاطعاً على تبني نهج النازية، ونحن نسرد ما سبق فقط لنؤكد أن النازييين الجدد واقع، وليس هناك من يشبههم في قطاع غزة.
على العكس، تتجلى النازية بأبهى صورها لدى “إسرائيل” من خلال مجازرها وخرق كل المحرمات من استهداف للمنازل الآمنة والمدارس والمستشفيات والجوامع والكنائس غير آبهة بشيء.
كما تتجلى من خلال السير على نهج جوزيف غوبلز: “اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس”، وهي دعاية نازية بامتياز. أليس هذا ما حصل ويحصل مع كل استهداف جديد لمستشفى في القطاع؟
حاولت “إسرائيل” من خلال الدعاية المفرطة عن “المحرقة” أن تجعل نفسها نقيض النازية، ولكن النازية فكرة وتوجه ومبدأ ومسار، وهي تنطبق على هتلر، تماماً كما تنطبق على “إسرائيل”.
وبناء عليه، لا ليس هناك ازدواجية في المعايير. على العكس، فالصورة اليوم أوضح حتى لمن يرفض رؤية حقيقة الغرب “المتحضر”.
لا، أوكرانيا ليست قطاع غزة، هي أقرب إلى “إسرائيل” بالقدر الذي يبدو فيه زيلينسكي قريباً من نتنياهو، أقله لناحية التهديد والاستجداء في الوقت عينه.