رأى مفتي بعلبك – الهرمل الشيخ بكر الرفاعي ان “مشكلتنا اليوم، أنّنا نتعرّضُ لما يحدث للمقدّسات، ونترك المقدّس الأهمّ وهو الإنسان ليتعرّض لما تعرّض له”، مشيرا الى ما حصل في العراق من “تهجير للمسيحيين، نتيجة مزاعم مشروع غربي وما يحصل للشعب الفلسطيني المجاور للمسجد والكنيسة وصمت البشرية على هذا الظلم المتمادي والمستمر”.
وقال: “نحن نعيش مشهدا مأساويا واليوم، يقول لنا هذا المشروع اخرجوا من عاداتكم وتقاليدكم، اخرجوا من إيمانكم، اخرجوا من مقاومتكم، اخرجوا من طهارتكم، حتّى نستطيع أن نرضى عنكم”.
كلام المفتي الرفاعي جاء خلال مداخلة له، في ندوة “تدنيس المقدّسات وتكريس المواجهات” أقامتها المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان، برعاية وحضور وزير الثقافة في حكومة تصريف الاعمال القاضي محمد وسام المرتضى وعدد من المقامات الروحية والشخصيات السياسية والثقافية والاجتماعية، في المكتبة الوطنية في بيروت.
ومما جاء في كلام المفتي الرفاعي: “أسجّل بدايةً تقديري للدور الذي تؤدّيه وزارة الثقافة في وطني اليوم. حيث أعادت تعريف الثقافة وأعطتها دورها الطبيعي وجعلتنا نطمئنّ بأنّ وطننا بخيرٍ لأن الثقافة بخير. وإذا كانت ثقافتنا ليست بخير، فإنّ وطننا ليس بخير. باتت الوزارة في عهدكم قلعةً وحصنًا للفضيلة، تتكسّر دونها موجات الإلحاد والرذيلة والشذوذ الجنسي، فبارك الله بكم وبجهودكم”.
واضاف: “إنّ اجتماعنا هذا ينبغي أن يعود إلى المنطلقات والمرتكزات لأنها تشكّل الخلفيّة الطبيعيّة لكلّ مشروعٍ يعيش في عالمنا اليوم. إنّ نظرتنا كمؤمنين إلى الكون وإلى الإنسان وإلى المخلوقات نابعةٌ من عقيدة. هذه العقيدة تقول إنّ هذا الكون لم يخلق عبثًا ولم يترك دون مدبّر، وليس ساعةً سويسريّةً أحكم أصحابها صنعها، وبعد ذلك تركت لتسير بمفردها. ما تسقط من ورقةٍ إلّا يعلمها. أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون. ما دام الكون ليس متروكًا، فإنسان الكون كذلك ليس متروكًا. الله سبحانه وتعالى خلق هذا الإنسان وهو الخبير به”
وتابع : “ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. إذا أراد واحدنا أن يشتري آلةً كهربائيّة، لا بدّ أن يستند إلى كتيّب إرشاداتٍ لتسيير هذه الآلة وحسن الاستفادة منها وعدم الوقوع في الخطأ. هذا الإنسان الآلة العجيبة الخارقة، هل يترك سدًى؟ أبدًا. الله سبحانه وتعالى خلق هذا الإنسان ورسم له طريقًا وقانونًا. القانون الإلهيّ بطبيعته، ثابتٌ بغاياته ونهائيّاته ولديه مرونةٌ وليونةٌ في وسائله وآلياته. بمعنى آخر، صلابة كالفولاذ في النهايات، ومرونةٌ كالحرير في الآليّات والوسائل. حين ننطلق من هذه القاعدة ندرك أن القوانين البشريّة اليوم هي قوانين خاضعة للتجربة، وقابلة للتعديل والتطوير وليست نهائية. كيف نترك شريعة خالق البشر لنعود إلى شريعة البشر، الذين هم يخطئون ويجرّبون، أما الخالق فأثبتت الدنيا منذ بداياتها إلى اليوم، أنه وضع القوانين التي تشكّل حماية إنسان الكون طالما أنه يلتزم بها في هذا الكون. ثم، لو تعارض الدين مع الإنسان، أيّهما نقدّم؟ نقدّم الدين، أم نقدّم الإنسان؟ لمّا تهدّدَ كفّار قريش عمار بن ياسر، نطق بكلمة الكفر حفاظًا على حياته، ونزل قوله تعالى: “إلا من أُكرِهَ وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان”.
واردف المفتي الرفاعي: “المقدّم الأساس في هذا الكون هو الإنسان. عندما نعتبر أنّ الإنسان هو المقدّس، نستطيع أن ننطلق بشكلٍ طبيعيّ. الإنسان، هيكل الله على الأرض. ملعونٌ من أراد أن يهدمَ هذا الهيكل. مشكلتنا اليوم، أنّنا نتعرّضُ لما يحدث للمقدّسات، ونترك المقدّس الأهمّ وهو الإنسان ليتعرّض لما تعرّض له”.
وقال: ” لنعد قليلًا إلى البدايات، لمّا جاء المشروع الغربيّ إلى المنطقة، وأراد بزعمه أن يقضيَ على أسلحة الدمار الشامل، ولمّا لم يجدها أراد إسقاط النظام، وبعدما أسقط النظام، انطلق ليحارب الإرهاب. منذ أن بدأت الحرب على الإرهاب من المشروع الغربيّ، تهجّر كلّ المسيحيين من العراق، وهم في العراق منذ آلاف السنوات، وتوزّع الإرهاب في كلّ أنحاء العالم العربي والإسلامي. هل هذا من باب المصادفة؟ أبدًا”.
واستطرد: ” ثمّ، عندما يعيش إنساننا الفلسطينيّ المقدّس، لأنّه يجاور المكان المقدّس مسجدًا وكنيسةً، هذا الظلم المتمادي والمستمرّ، وتسكت البشريّة جميعًا على هذا الظلم، لأنّها أعلنت موت الإله وتريد أن تمهّد لموت الإنسان، حتى تعفيَ نفسها من العاقبة الأخلاقيّة المترتّبة على كلّ ما يجري من دمارٍ وخراب في العالم كلّه. نحن أمام مشهدٍ مأساويّ، يستحضرُ بالضرورة ما حدث مع سيّدنا لوط (ع) عندما اجتمع عليه قومه، وهم في ذلك الوقت كانوا القوّة العظمى، وكانوا يملكون مجلس الأمن، وصندوق النقد الدولي، وكلّ المفردات المعاصرة التي نعيشها نحن اليوم، كانوا يملكونها. فأعلنوا أنّه يجب إخراجه مع من آمن معه من قريتهم. ما العلّة؟ وما السبب؟ “أخرجوهم من قريتكم إنهم أناسٌ يتطهّرون. واليوم، يقول لنا هذا المشروع اخرجوا من عاداتكم وتقاليدكم، اخرجوا من إيمانكم، اخرجوا من مقاومتكم، اخرجوا من طهارتكم، حتّى نستطيع أن نرضى عنكم”.
وختم المفتي الرفاعي: ” أيّها الأحبّة، في بداية الخلق، كانت هناك تجربةٌ أولى بين إبليس وسيّدنا آدم، لمّا أمره ربّنا بالسجود ورفض، عندما رفض إبليس تحوّل إلى إمامٍ للتعصّب والعنصريّة، لأنه عندما علّلَ أسباب الرفض قال “أنا خيرٌ منه”. تعصّب لجنسه، وبدأ التعصّب منذ ذلك الوقت. فكلّ من تعصّب إمامُه إبليس، وكلّ من عاش حوارًا وانفتاحًا وقبولًا للآخر إمامُه الأنبياء من لدن آدم عليه السلام إلى سيّدنا محمّد عليه الصلاة والسلام. إنّ علاقة الدين من الدين، كعلاقة الأخ مع أخيه، غير أنّ نسبَ الأخوّة هو الدم، أمّا نسبُ الدين فهو العقلُ والفكر. حيّا الله هذا اللقاء وهذا الجمع المبارك والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.