رأى وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال القاضي محمد وسام المرتضى أن “الأوفياء لهذا الوطن الحبيب، يمضهم أن البعض ممن لا يعرف بناء السدود لتجميع المياه، يحاولون إقامة أشباه لها ما بين المواطنين، لتجميعهم وراء إسمنت المكونات التي، على الرغم من ثراء تراثها الروحي والمناقبي، استطاع بعض سياسييها أن يكبلوا مناصريهم بسلاسل التعصب ضد الآخر، والخوف منه، ورفضه باستمرار“.
وقال: “حتى إن قوما منا صوروا الحوار جريمة حرب، وآخرين ألهاهم الشقاق والمناكفات عن غوث البلد الجريح، وفئة نادت بما يناقض القيم التي تحصن مجتمعنا، فعوضا عن الركون الى الحوار والتكاتف والتعاون للخلاص من أزماتنا، ينبري من يروج للشذوذ الأخلاقي او يمعن في ممارسة الشذوذ السياسي، كل ذلك في وقت تكاد فيه مؤسسات الدولة أن تلفظ أنفاسها الأخيرة“.
أضاف: “إنني من هنا، من طرابلس، مدينة اللقاء والعيش الواحد، الجامعة لكل أشكال الغنى والفقر في آن معا، المقيمة على فرح أمسها وجرح يومها، أعلن أن لا سبيل لنا إلا تلبية دعوة دولة الرئيس نبيه بري للحوار تمهيدا لبناء جسور التلاقي والتعاون والتفاهم من أجل تحقيق الخير العام. التعصب لا يبني وطنا. الخوف لا يبني وطنا. التقوقع والفدرلة يخدمان إسرائيل ويهدمان لبنان“.
وشدد على أن “العائلة اللبنانية الصغرى كما الكبرى ينبغي لها أن تظل على اتحاد وثيق، قائما كيانها على المحبة والتكاتف ومكارم الأخلاق وعيش المعية“.
كلام الوزير المرتضى جاء خلال رعايته حفل تكريم أقامته وزارة الثقافة للمفكر الاديب والمحامي حسين ضناوي في مقر الرابطة الثقافية في طرابلس بحضور النائبين طه ناجي وجميل عبود، وممثل مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمد امام الشيخ زكي صافي، الوزير السابق رشيد درباس، العميد جمال ناجي ممثلا النائب أشرف ريفي، النائب السابق علي درويش، ممثل جمعية العزم والسعادة الاحتماعية مقبل ملك، رئيس الرابطة الثقافية الصحافي رامز الفري، ونقباء المحامين السابقين ميشال خوري وعبد الرزاق دبليز وخلدون نجا، ورئيس الهيئة العليا لبيت الزكاة والخيرات الدكتور محمد علي الضناوي ممثلا بهيثم سلطان، ومسؤول حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي في طرابلس رضوان ياسين، ممثل مجمع الاصلاح التربوي الدكتور خالد ميقاتي، والشيخ مصطفى ملص، ورئيس لقاء الاحد الثقافي الدكتور احمد العلمي، مدير مصرف لبنان في طرابلس الدكتور صفوان ضناوي، النقيب محمد كمال الخير، مديرة جمعية الوفاق الثقافية الدكتورة رفيف دندشي، ممثل نقابة الممثلي والمسرح خالد الحجة، رئيس شباب العزم ماهر ضناوي، رئيس الاكاديمية الدبلوماسية الدولية الدكتور عمر الحلوة وحشد من الشخصيات وأبناء المدينة.
ومما جاء في كلمة الوزير المرتضى: “من عادة المحامين في جلسات اختتام المحاكمة أن يكرروا أقوالهم، ويطلبوا الحكم بقبول الدعوى أو بردها، وذلك حسب وقوفهم إلى يمين القوس أو شمالها.
اليوم، يغريني المقام بأن أقلب الدور قليلا، وأتولى أنا القاضي، تكرار أقوال من اعتلى هذا المنبر من الخطباء الذين قدموا جميعهم لوائح من حبر وعطر، في الشهادة لحسين ضناوي المحامي والمفكر والناشط الثقافي والوجه الوطني، الذي تؤرخ له بمفردات العطاء الباذخ، سيرة زاخرة الألق… من حاء اسمه حتى ياء شهرته“.
وتابع: “ويغريني المقام نفسه أيضا، قبل قلب الأدوار والتكرار، بأن أضيف نفحة أخرى من العطر المهراق على هذه العشية، خلاصة إكسيره : أنني أعرف حسينا منذ أول عهدي بطرابلس، رجلا منذورا للثقافة… منذ أول عهده بالوعي الشخصي والوطني. بل لعلي لا أبالغ إذا قلت إنه تنشقها بملء جوارحه، كما يتنشق الشعاع الماء ويمضي به إلى حيث يصير سحائب خير. وتعاطاها نسغا يجري في أعماق الحياة، لا طلاء خارجيا يزين المظاهر كوشم الحناء ودهن المساحيق فهو لم “ينصب خيطها” (والتعبير لجرمانوس جرمانوس) وسيلة لذيوع الصيت أو لإيقاع الناس في الوهم، وصولا إلى استجلاب المنافع المادية“.
ولفت الى أن “الثقافة كانت لحسين ضناوي، وما برحت، منهاج عيش مزدان بالترفع، وخفقان وجدان، وخريطة طريق لبناء وطن من فكر ومن كلمات، يستحق أبناؤه الانتماء إلى تاريخه وحاضره ومستقبله“.
وقال: “حسين ضناوي إذا، قرين انتماء، وصائغ قلائد من ذهب الثقافة، مرصعة بجواهر التاريخ والدراسات والسيرة والقصة والسياسة والصحافة وفن المحاماة، وطرائق الحياة اليومية التي تنقل في أحوالها، فما بدل عن صراط الحرية والديمقراطية والقيم تبديلا. ذلك أنه عرف وآمن بأن الثقافة إبداع حر لا يحد له فضاء، بها يعاد ترتيب أشياء الوجود على أبهى من طبيعتها، وأن الحرية لا ينبغي لها أن تصطدم بالسلامة العامة؛ فعندما يقرع الخطر جدار الكينونة الإنسانية الحضارية حتى يكاد يتصدع، فعند ذاك لا سبيل إلى البقاء إلا بتجنيد القوى الروحية والنفسية الإبداعية من أجل حماية الإنسان، كل إنسان. من هنا كانت الثقافة عنده التزاما بالحق مهنة، والجمال أدبا، والخير صنعا، على دماثة خلق لا يتقنها إلا من شفت نفوسهم حتى البلورية.
ولعل من ميزات الأستاذ حسين ضناوي الأساسية التي لم يحد عنها البتة، (بحسب ما كنت قد سمعته شخصيا من المرحوم الرئيس سعيد عدرة) قدرته على الإصغاء بصمت وانتباه، مهما كان الحديث وأيا كان المحدث. ذلك يذكر بقول أبي تمام:
وتراه يصغي للحديث بقلبه وبسمعه… ولعله أدرى به
هذه الميزة ازدحمت فيه مع أخت لها، تماهت بها كما المد بالجزر على شاطئ طرابلس، هي الجرأة في التخلي الإرادي عن أي موقع، والعودة إلى سكينة النفس، مع التشبث في الوقت نفسه بمواصلة النضال المعرفي من أجل الذات والمجتمع؛ فحسين ضناوي مؤمن بأن السلطة، صغيرة كانت أم كبيرة، كمنعطفات الفورمولا، لا يصعب دخولها، بل الصعوبة كلها في الخروج منها بسلامة متجسدة بنظافة الكف وراحة الضمير وصفاء السريرة“.
وأستطرد وزير الثقافة قائلا: “بالحديث عن السلطة أيها الأصدقاء كنت عزمت على تحاشي التطرق إلى السياسة في هذه العشية، فإذا بنقطة حبر تتسرب عفوا من ريشة قلمي، وتنسكب رويدا على أرض الخطاب فلم أشأ كتمانها. وهي أن الأوفياء لهذا الوطن الحبيب، يمضهم أن البعض ممن لا يعرف بناء السدود لتجميع المياه، يحاولون إقامة أشباه لها ما بين المواطنين، لتجميعهم وراء إسمنت المكونات التي، على الرغم من ثراء تراثها الروحي والمناقبي، استطاع بعض سياسييها أن يكبلوا مناصريهم بسلاسل التعصب ضد الآخر، والخوف منه، ورفضه باستمرار. حتى إن قوما منا صوروا الحوار جريمة حرب، وآخرين ألهاهم الشقاق والمناكفات عن غوث البلد الجريح، وفئة نادت بما يناقض القيم التي تحصن مجتمعنا…. فعوضا عن الركون الى الحوار والتكاتف والتعاون للخلاص من أزماتنا، ينبري من يروج للشذوذ الأخلاقي او يمعن في ممارسة الشذوذ السياسي، كل ذلك في وقت تكاد فيه مؤسسات الدولة أن تلفظ أنفاسها الأخيرة“.
وأردف: “إنني من هنا، من طرابلس، مدينة اللقاء والعيش الواحد، الجامعة لكل أشكال الغنى والفقر في آن معا، المقيمة على فرح أمسها وجرح يومها، أعلن أن لا سبيل لنا إلا تلبية دعوة دولة الرئيس نبيه بري للحوار تمهيدا لبناء جسور التلاقي والتعاون والتفاهم من أجل تحقيق الخير العام. التعصب لا يبني وطنا. الخوف لا يبني وطنا. التقوقع والفدرلة يخدمان إسرائيل ويهدمان لبنان“.
مشددا على ان “العائلة اللبنانية الصغرى كما الكبرى ينبغي لها أن تظل على اتحاد وثيق، قائما كيانها على المحبة والتكاتف ومكارم الأخلاق وعيش المعية“.
وتوجه الى المكرم بالقول: “أستاذ حسين صورة المثقف التي ملأت أنت إطارها، حملت وزارة الثقافة، والوزير شخصيا على الدعوة إلى تكريمك. أنت حتما تستحق أكثر من هذا الحفل، فلقد كان يجدر بالوسام أن يسعى إليك، لكن من نال مجد الكلمة وتربع على عرشها وتقلد تاجها وعصاها، صار هو الوسام والحفل والتكريم. طبت وطابت أيامك وطابت طرابلس التي زرعت فيها قمحا كثيرا أثمرت سنابله أضعافا مضاعفة“.
وقدم له درع وزارة الثقافة عربون تقدير تضمن النص التالي: “يمنح وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى هذه الدرع التكريمية إلى المفكر والأديب
المحامي الأستاذ حسين ضناوي تقديرا له على إسهاماته المضيئة في تعزيز الحراك الثقافي والاجتماعي“.
وكان الاحتفال استهل بالنشيد الوطني وترحيب من الدكتور جان توما بالحضور معرجا على سيرة المكرم وما التزم به في مسيرة حياته “مؤمنا بدور الثقافة وبمدينته التي أحب“.
منجد
ثم ألقى رئيس المجلس الثقافي للبنان الشمالي صفوح منجد كلمة أعرب عن صداقته وإحترامه لمواقف وآراء ودور ضناوي النضالي والثقافي والنقابي ولما بذله من جهد في سبيل مدينته ووطنه وعروبته. كما أشار الى مساهمته “الفاعلة والغنية بالفكر والوعي والى مؤلفاته”، وأكد في هذه المناسبة على “الايمان بالعلم والثقافة والفكر، لنتمكن من مواكبة الحضارة المعاصرة، وأن المعركة بيننا وبين عدونا هي معركة حضارية، يفوز فيها بالنتيجة من يكتب له السبق في مجالات العلوم والتقدم التكنولوجي، إضافة إلى مستلزمات الصمود والمواجهة“.
تامر
وروى مدير عام مرفأ طرابلس مدير عام النقل بالانابة الدكتور أحمد تامر تجربته مع ضناوي قبل أن يتعارفا ثم “بعد لقاءات فكرية جذابة“، وحيث أدرك أن “إحترام الآخر المختلف هو أساس التقدم الفكري وهو غنى إجتماعي يرقى إلى الأساس الديمقراطي التي ينبني عليها في الوقت الحاضر المجتمع المعاصر المتحضر“.
واعتبر أن ضناوي “صاحب فضل في تشكيل وتكوين فكر قومي ووطني وانساني وثقافي وحتى إداري، وهو رجل يملك أرقى أساليب النقد ويتقن أهم أدوات الحوار المثمر الراقي والبناء“.
ولفت إلى أنه “على الرغم من محبته لصديقه الرئيس المرحوم صدام حسين إلا أن ذلك لم يثنه عن نقد الحاكم المستبد الذي تقع عليه مسؤولية النتيجة والتي كانت مدمرة في كل وطن عربي أدير من قبل دكتاتور“.
وشدد تامر على أن “بناء المجتمع العصري يبدأ بإعطاء المفكرين مثل حسين ضناوي حقهم ودورهم، فبدل أن يهمشوا ويحاربوا ويحاصروا من أصحاب المصالح والإنتهازيين كما حصل كان لا بد لنا كطرابلسيين أن ندافع عن هذه الطينة العطرة والخيرة التي عملت دائما لتخلق البنية الإجتماعية الوطنية والتي هي الضمانة الحقيقية لبناء وتقدم الشعوب حيث النقد العلمي الذي علمني إياه ذاك الرجل ذو الشعر الأبيض هو الأساس لبناء الحضارات والشعوب وهو الضمانة الأساسية للمصير الوطني والقومي“.
ساسين
وقال رئيس اللجنة الوطنية للاونيسكو المحامي شوقي ساسين في كلمته أن “حسين ضناوي لغة ترف كالنوارس من أول البحر حتى امتلاء الغمائم بنهيد أمواجه المالحة. ألف موصولة بيائها، تنادي أو تفسر لا فرق، ففي مقاهي المدائن التي على الشطوط، حيث تلفع النراجيل وجوه البحارة بدخان الحنين، يحفر حسين أسماء الشوارع طويلة عريضة عالية، كمعلقات قرشية عصماء، ولكم أن تقرأوها كما تشاؤون: بيروت أو طرابلس، دمشق أو بغداد، صنعاء أو القدس أو القاهرة، أو سواهن من بنات وجعه العربي“.
وقال: “إن لسان قلبه ما زال يقول: أرز لبنان أيكة في ذرانا والفراتان ماؤنا والنيل ورياحيننا على تونس الخضراء خضراء أين منها الذبول. وأما لسان حاله فحوار ساكت مع شرق كئيب، تنكسر الأعمار فيه كل يوم على خراب يخطئ في تهجئة الأرض، ويريد أن ينقح السماء. مثال ما يحاور به أنه سئل مرة فأجاب:
استلام العسكر للحكم في العراق وسوريا فيما بعد، أقنعني نهائيا بصحة قراري الابتعاد عن التنظيم. فلقد كنت مقتنعا بأن العسكر لا ينبغي لهم مطلقا أن يحكموا. هذا ضد مبادئ الثورة الحقيقية وضد التعبير العميق للمجتمع العربي عن توقه إلى الحرية والعدالة الاجتماعية. ولأن العسكر قد حكموا فإن الحزب أصبح تابعا لهم، والمبادئ اغتصبت وضاعت، ولن يكون للحزب القدرة على صناعة مستقبل العرب. لا أرى نفسي في هذه الطريق بل أنا عاجز بعقليتي وطبيعتي عن أن أكون جزءا من هذه المسيرة“.
أضاف: “ما لنا ولهذا، فالمناسبة مرصودة للفرح، لا لتذكر فوات الحرية على معظم شعوبنا، وفوضاها لدى من تبقى. المناسبة قمر غدها الفضي ولو جاء مطلا من عتمة الأمس، وقصاراها أن تبعث الدفء في أوصال وقتها القليل، إذا اصطلى بوداعة حسين ضناوي المحامي والمثقف والمتعلم باستمرار، أو الكيان الأبجدي كما يطيب لي أن أسميه، الذي تكونت سحنته من لز حرف بحرف قبل أن تصبح ملامح وبشرة. أقول هذا عن يقين اقتناع، فلقد كان لي من بعدما التقينا في مطالع التسعينيات، أن أرافق أحواله المعرفية كما تجلت في الكتب والصحف والمحاضرات، وفي سواها من منتديات الثقافة، وفي لقاءاتنا الخاصة ومطارحاتنا لشؤون النقابة والمدينة والوطن والأمة، وأن أبلو عنده الرفعة في القول والفعل والفكر، ووفاء الصحبة وأمانة الالتزام. فالرجل قصة تروى، وزمن كلمات يسافر فيه ويستعاد، حتى لكأني به، من فعل الرصانة أو من أثر الخيبات، بعدما امتلأ حضوره بالضوء أصبح في انكفائه الثمانيني كما قال أدونيس: “أجمل المصابيح تلك التي نشعلها، لا لكي نرى النور، بل لكي نرى الظل”، فحسين ضناوي يرى هو هو على حالي ألقه والخفوت، خلاصة نور وظل يستويان عطاء واتساعا، وشيبا وشبابا، لأنهما يفيضان الهوينى من لهب مصباح صنعته طرابلس“.
وختم ساسين: “أصدق الختام عندي ما قلته مرة من قبل: إن صوتي ههنا ما برح كما كان، يردد فيك بحناجر كثيرة: “حسين ضناوي نحبك… نحبك“.
درباس
أما الوزير السابق رشيد درباس فقال: “حسين ضناوي من صميم توغلنا في العقد التاسع، أستدعيه للحظات إلى العقد الثالث، لا لعتاب أو كشف حساب، بل لأقر له بأنه رأى حين تعامينا، وهدأ ساعة فرنا، وتسامح لما كنا في أوج الغضب، وتعامل بواقعية مع مرارة الحقائق فيما كنا ننكرها مكابرة، بل نزعم أنها مرحلة ستسقط يبوستها بحيوية النسغ، فإذا بنا نكتشف متأخرين، أن أعمارنا قد افترستها الطاحونة المتوحشة التي تحركها ريح سموم، جعلت الأجيال غلالها والمواسم رحالها والحرام حلالها.
في ذلك الخريف القاهري تعارفنا، أهل مدينة وأشقاء عربا، في رحاب جامعة القاهرة. كان الحدث جللا إذ انفصلت سوريا عن دولة الوحدة، وكنا في حالات تتراوح بين الغضب والحيرة والوجوم… وبعض الابتسام المكتوم. لكن حسينا كان رابط الجأش، يختار كلماته القليلة بعناية وينطقها بتؤدة، ورغم انعقاد الصداقة الفورية بيننا فقد ظل على حاله وبقيت على حالي، أنا مسكونا بالحماسة وهو بالروية.
وعلى هذا، فإنني لا أقف هنا لتكريمه، وهو المكرم شخصا وسلوكا ومسيرة وسريرة، بل لأتلو أمامه وأمامكم، فصلا متأخرا من النقد الذاتي، أعترف فيه أنني أخطأت وأنه أصاب. فكثيرا ما كنت أترك نفسي تجري مع التيار والأهواء، ودائما كان ينبهني وينهاني عن ذلك، وغالبا ما كنت أعصى النصائح، إلا واحدة أنا مدين له بها حين امتثلت لمشورته وانتقلت من كلية الزراعة إلى كلية الحقوق التي كانت ذات سمعة رهيبة لارتفاع نسبة الرسوب فيها، ولصرامة الأساتذة وصعوبة البرامج، إذ قال لي مكانك ليس هناك بل هنا. وبالفعل، بعد أن كنت صرفت “هناك” عاما كاملا، ما زرعت فيه وما حصدت، وما فلحت وما أفلحت، عدت إلى “هنا” وبدأت دارسة الحقوق، كان عالم آخر من القوانين أشبه ببحور معرفة لا تسبر وآفاق علم لا تحد، زورقي فيها يطوي أمواج الليالي حتى تبيض، ويؤنس وحشتي رفقة سبقوني وما بخلوا علي بالمحبة، في مقدمتهم حسين، ومحمد ديب، والمرحومون رشاد حبيب ومحمود حسيني ومحمود طبو. فلما ألقاني السفر على رصيف مرفأ أمين، متدرجا عند المرحوم رشيد فهمي كرامي والأستاذ عمر مسقاوي، وكانا شريكين، وجدتني أعود مع حسين الذي سبقني، إلى شلة صداقة وأخوة ما زال طيبها يرفرف مع نسيم الذاكرة ولهج اللسان“.
وتابع: “عد يا زمان الصفا… رحل المؤنسون، وبقينا في ظلهم الذي كان يخيم على ملتقى الزملاء بانتظار المناداة عليهم إلى جلساتهم. وكثيرا ما كنا نغفل عنها، بسبب حلقة يعقدها عبدالله زيادة يروي فيها نوادره التي لا تنتهي، مشفوعة بقهقهات من السامعين تطغى على أصوات المباشرين.
عروبة طرابلس حقل خصيب واسع الصدر، يفسح تربته لأنواع الفسائل، ولقد ترافق نشوء حزب البعث مع انتساب أبناء الطبقات الوسطى إلى المدرسة الثانوية فشكل أولئك الطلاب نواة قيادة حقيقية للمدينة، كان حسين منها بمنزلة اللب والبوصلة. ولما انتقل إلى القاهرة، كبرت مهامه الحزبية، وصار مسؤولا عن رفاق من مختلف الأقطار العربية، لا سيما العراق وسوريا واليمن، ومن هؤلاء من تبوأ فيما بعد أرفع المناصب.
هنا أتوقف لأروي لكم مع كتم أسماء كتم الموت أشخاصها، ما حكاه لي منذ غابر الزمان، أنه سأل رفيقا عن خطة الحزب للاستيلاء على السلطة، فأجاب: “بالانقلاب والقوة المسلحة”، فما كان من حسين إلا أن لفته إلى أن الحزب سوف يفقد السلطة بالوسيلة ذاتها إذا استعملها. منذها، أدرك أبو خالد أن العسكرة قد نخرت بنية الحزب، فآثر الخروج الهادىء من تلك البراغماتية المغشوشة التي تنطوي على رضوخ كلي لمنطق القوة على حساب الفكر الحزبي والتراتبية التنظيمية، كما كان أيضا من أول المستبشرين بالمقاومة الفلسطينية، فواكب انطلاقتها عن كثب، ولما أدرك بالممارسة أن غلبة القوة تستشري لتصبح قاعدة، آثر الانسحاب الصامت على غير ما فعله سواه من أفراد وأحزاب انخرطوا إلى حد التبعية المطلقة“.
أضاف: “في مرحلة التدرج اختار مكتب خالد صاغيه محامي الفلاحين الذي كان أبرز المشاكسين وأشد المتحمسين للعروبة، فكنت أراهما معا حالة غريبة تعبر عن انسجام ضدين بلا تنافر، فخالد خطيب، وحسين كتوب، والمدرج عجول، والمتدرج دؤوب، لكنهما معا شكلا ثنائيا جميلا ومرموقا إلى أن غدر بخالد في ذلك اليوم المشؤوم أمام مطعم المنارة.
انغمس في العمل النقابي حتى الأذنين، وكان الناخبون يذهبون إليه دون أن يسعى إليهم، فمعه صار للشباب دور، ومعه نشأت مجلة النقابة، وبوجوده كان الهواء يغذي الأنسجة من غير منة. ولما استحق أن يكون نقيبا خذلته اللعبة الانتخابية التي طالما حذرني من مخاطرها ومطباتها، فلما دخلها لم يكن حذرا على الإطلاق، بل استمر يخدم مهنته ونقابته من غير أن يلوم على خذلان، أو يستاء من جحود، فكأني به ذلك الذي وصفه الفنان الطرابلسي العظيم رضوان شهال حين قال:
وأحلى الهوى أن نحب الهوى
ونعطيه الروح من غير دين
كما وهب النهر كنز الربيع
وراح ولم يسأل الضفتين
لا أترك المنبر قبل الإشارة إلى أن صديقي حسينا، وأستاذي عمر مسقاوي، والمرحوم الدكتور نزيه كبارة ورهطا لا يستهان به من أترابهم، كان قد نصب لهم واحد من عباقرة طرابلس وظرفائها، محمود الأدهمي شبكة من الإنشاء اليومي؛ وكناظر عليهم، كان يلزمهم بالكتابة، إيمانا بفكرهم المتقدم، ووفاء لرسالة بدأها بأن جعل لمدينته صحيفة يومية، لها مطبعتها وحبرها بنكهة الليمون، ورحابة نشر الآراء على اختلافها.
حسين ضناوي شبيه بكتبه، بل هو كتاب رصين في زمن المنابر الجوفاء، ولذلك لا أدل عليه من صفحاتها، فهي واضحة الدلالة، بل أخرق رصانته بالخطبة المشحونة لأدلل نفسي بالاحتفاء به، ونسترجع معا نقاء أصيلا، عكره القذى وشوهته الغفلة، واستولى فيه على السلطة أهل التسلط، فتفشت الفوضى وساد الاستبداد، فيما ظل الصامدون على صمودهم، وظل حسين على هدوئه وألمعيته وشبابه، نجما في الفكر والسياسة والكتابة والمحاماة، وبدرا دائم الاستدارة والضوء في الرابطة الثقافية التي تجذرت حروف اسمه في اساسها مع أخيار سبقوه، وأخيار ما زالوا على وفائهم لهذه المؤسسة الثقافية التي انتمت إليها طرابلس وأوى الشمال إلى مساحاتها.
شكرا للرابطة والرئيس، شكرا لأصحاب الفكرة والمشاركين، وشكرا جزيلا لراعي الاحتفال صديق طرابلس الوزير القاضي الاستاذ محمد مرتضى“.
ضاهر
ونقل ممثل النقيبة قوال المحامي مروان ضاهر تحية القوال إلى راعي الحفل والمحتفى به المكرم، ولفت الى “معينه الكبير والغني والى دوره في نقابة المحامين التي انتسب إليها العام ١٩٦٤ فعاصر التاريخ مع كوكبة من رجالات طرابلس ولبنان فشكلوا معا جماعة البناة التي عملت وناضلت وكافحت في مضمار القانون والعدالة والعروبة والتحرر وتحرير العقول“.
وتناول دوره في عمل الخير والبر والإصلاح معتبرا أن تكريمه اليوم “تكريم لنقابة المحامين تاريخا وحاضرا ومستقبلا“.
ضناوي
ثم ألقى المحتفى به كلمة اعتبر فيها ان التكريم هو “لكل الذين يهتمون بالثقافة”، مشيرا الى ان “قراءة الكتب والاهتمام بشؤون الفكر تشكل معرفة وهي تغير شخص العارف، أما الثقافة فهي معرفة تغير ذات المثقف وتسعى لتغيير الآخرين وهي التزام بحرية الانسان والعدالة والتزام بالنضال للمساواة“.
أضاف: “حين اختار جيلنا الثقافة كوسيلة حيلة وانخراط في المجتمع كان مشبعا بالأمل والتغيير وقيادة المجتمع الى الأفضل ولقد ناضل جيلنا وكانت الرؤية واضحة والامال عريضة وكان الهم الاجتماعي الفكري واسعا فكثرت المشاريع وكانت الأوضاع العامة صعبة ولكن اصرينا أن يكون لنا كلمة ومع ذلك تبين لنا أن أعداء للتغيير أشرس فضاق أفق النضال وخيم الصمت بصورة مؤلمة“.
وختم ضناوي مشددا على انه “لا بد من النضال الثقافي العام فالدور الثقافي بالغ الخطورة وينبغي تعزيزه“.
وقدم كلا من الرابطة الثقافية وعائلة آل الضناوي دروعا تقديريه للمكرم