مجددًا، يستهل رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وجوده في نيويورك لمطالبة المجتمع الدولي بتقديم المزيد من الدعم للبنان في أزمة اللاجئين السوريين، واصفاً إياها بأنها تشكل خطراً على البلد ونسيجه الاجتماعي، في إشارة غير جديدة إلى أثر اللجوء على التوازن الديمغرافي للبنان.
في الشكل، قد يبدو مطلب ميقاتي مفهومًا، ربطًا بتدفق آلاف النازحين الاقتصاديين في الآونة الأخيرة من عشرات المعابر البرية غير الشرعية. لكن مضمون هذا المطلب الذي تحول إلى شماعة الطبقة السياسية، التي تتنصل من مسؤوليتها لما وصل إليه لبنان من انهيار مؤسساتي واقتصادي وبنيوي، ينطوي على الكثير من التضليل لسيرة لبنان الرسمي بالتعامل مع ملف اللجوء، وما يحوم حوله من شبهات فساد وسوء إدارة.
سنوات الهدر
ورغم أن لبنان يضم أعلى نسبة لجوء سوري منذ اندلاع الحرب في سوريا سنة 2011، لكنه أيضًا من أكثر البلدان التي تلقت مساعدات مالية أممية، بلغت مليارات الدولارات، ليس دعمًا للاجئين بالتعليم والصحة والمعيشة وحسب، بل أيضًا لدعم بنية لبنان التحتية والمجتمعات المحلية المضيفة. ولعل فضيحة ملايين الدولارات المهدورة في وزارة التربية لتعليم السوريين والتي دوت سنة 2020، خير دليل. إضافة إلى الشبهات التي أثيرت سنة 2021 عن ابتلاع عدد من المصارف اللبنانية لملايين الدولارات التي وصلت كمساعدات أممية للسوريين في لبنان، كأحد نتائج أزمة القطاع المصرفي، كمثال آخر من تاريخ نحو عشر سنوات تدور حول السؤال الآتي: أين ذهبت أموال المساعدات الأممية للسوريين في لبنان؟
قد يعرف المجتمع الدولي أن لبنان الذي لا تنفك سلطته عن استجداء المساعدات المالية، بأن اللجوء السوري ليس مسببًا للأزمة في لبنان، بل أحد عناصرها الضاغطة، في حين أن الأزمة الفعلية تكمن بنظام اقتصادي زبائني وتحاصصي تسبب بانهيار البلد، لمصلحة طبقة من أثريائه والمتهمين باختلاس الأموال.
ولعل رد نائبة وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، فيكتوريا نولاند على ميقاتي، حمل رسالة مفادها أن المجتمع الدولي تجاوز مرحلة الابتزاز المطلبي الذي يمارسه لبنان الرسمي ليشيح النظر عن أصل الأزمة، وذلك بدعوتها لبنان لتفعيل التعاون مع المنظمات الدولية، وخصوصًا مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وكأنها تقول: عودوا إلى المفوضية، فهي المرجع الصالح حصرًا لمتابعة الملف.
الوضع العبثي
ويأتي تصريح ميقاتي بعدما وجهت قبرص إنذارًا مفاده أن لبنان هو آخر سد أمام خطر تدفق موجات المهاجرين السوريين إلى أوروبا على متن القوارب غير النظامية. وواقع الحال، تتزامن مطالب لبنان الرسمي للحصول على دعم من المجتمع الدولي، في وقت توحي فيه مختلف المؤشرات الدولية أن منطقة الشرق الأوسط بما فيها لبنان، لم تعد على سلم أولويات المنظمات الدولية، ولم تعد مستعدة لضخها بالهبات والقروض التي لا تعود عليها بالنتائج المرجوة سياسيًا واقتصاديًا. ولعل ما يريده المجتمع الدولي من لبنان بملف اللجوء السوري، هو أن يواصل دوره كسد لموجات الهجرة غير النظامية التي تأنّ منها الدول الأوروبية، ولكن بأقل ثمن ممكن.
وإذا كان الوجود السوري الذي يقارب ثلث أعداد سكان لبنان بأحسن تقدير، يضاعف الضغط على البنى التحتية والخدماتية المنهارة، فإن لبنان يدور وفق مراقبين بحلقة عبثية. فلا هو قادر على استمالة المجتمع الدولي لفتح شلال المساعدات المالية تحت شعار “مكافحة واستيعاب الوجود السوري”، ولا هو قادر على نسج تفاهم مباشر وثنائي مع النظام السوري لتنفيذ خطة عودة السوريين، بمعزل عن إرادة المجتمع الدولي ورغبة الرئيس النظام بشار الأسد. كما أنه غير قادر على ضبط معابر البرية غير الشرعية على طول الحدود اللبنانية السورية، التي تشكل منفذًا للسوريين الهاربين من الأزمة الاقتصادية في بلادهم، إما للبقاء في لبنان أو للهجرة بحرًا. إضافة إلى إقرار قائد الجيش اللبناني جوزيف عون بأن الجيش لا يملك العديد الكافي ولا الامكانات اللوجستية لضبط الحدود البرية بالكامل.
وهكذا، قد يواصل لبنان مناشدة المجتمع الدولي بملف اللجوء السوري، فيما تبدو توصيات الحكومة الأخيرة للتصدي للوجود السوري موضع اختبار صعب للغاية. هذا، في حين يستمر تدفق السوريين برًا إلى لبنان وبحرًا منه إلى أوروبا قبل حلول فصل الشتاء.
كما يواصل الجيش تتبع من يستطيع إلقاء القبض عليهم، وهم قلّة، في حالتي الهروب، برًا وبحرًا. وآخرها كان العثور يوم أمس الاثنين على مركب يستعد للهروب من المنية إلى أوروبا، وعلى متنه عشرات السوريين أيضًا.