مقالات
عام التحدّيات القاسية: لا حلول ولا أوهام

لم يكن العام الآفل أفضل حالاً من سابقه، بل لعلّ فترات الهدوء النسبي التي شهدها أتاحت فرصة إضافية لانكشاف أعمق لحالة الهريان التي تطاول كل شيء.
لم يكن العام الآفل أفضل حالاً من سابقه، بل لعلّ فترات الهدوء النسبي التي شهدها أتاحت فرصة إضافية لانكشاف أعمق لحالة الهريان التي تطاول كل شيء.
هريان ينخر بنية الدولة ومؤسّساتها، يقابله ضياع يهيمن على قواها السياسية، فيما يتلمّس الجمهور سبل نجاته عند منجّمين، بعضهم بات، للمفارقة، أكثر إلماماً بالأحوال السياسية والاقتصادية من أهل الاختصاص أنفسهم.
وفي المقابل، تتّجه الأمور نحو مرحلة أشدّ قسوة على مستوى التحدّيات، في ظل انقسام شامل يطاول كل العناوين بلا استثناء، حيث يكاد الخلاف يصبح القاسمَ المشتركَ الوحيدَ، وحيث يبدو أن معجزة هي فقط ما يحول دون انفجار كبير في هذا البلد الصغير.
عندما يقبل قسم من اللبنانيين بالخضوع للوصاية الأميركية – السعودية، بذريعة أنّها تمثّل الطرف الأقوى، فإنّ هذا الفريق نفسه الذي يرفض مبدأ مقاومة إسرائيل، مستعدّ للانخراط في خطط لم يشارك في رسمها، ولا يعرف أصولها ولا خيوطها، بل يعترف، صراحة أو ضمناً، بأنّ دوره لا يتجاوز كونه «برغياً» في آلة تديرها القوّة الأعظم في العالم.
ومن يسوقه محتال انتحل صفة أمير سعودي، لن يكون أقلّ إذلالاً في حضرة سفراء «الرجل الأبيض»، الذين لا يقيمون وزناً لأحد في هذه البلاد، ويَمقتون عملاءهم قبل أعدائهم، ولسان حالهم واحد لا يتبدّل: ما نريده نأخذه بالقوّة، ولا شيء غير القوة!
في حالة الدولة، لا تشير أيّ من المقدّمات إلى تغييرات نوعية قادرة على معالجة أزمة السير، فكيف يُنتظر من الناس أن يعوّلوا على حلول لأزمات المياه والكهرباء والتعليم والصحة؟
أمّا مشروع الحكومة لمعالجة الخسائر المالية واستعادة أموال المودعين، فلا يختلف في جوهره عن واقع الحكومة نفسها، إذ إنّ «التسوية» التي ينتظرها الجميع جرت، مرة جديدة، على إيقاع ما يريده الخارج.
وهكذا، تعود الحكومة لتقول للبنانيين، إنّها «تنقذهم من شرّ أعمالهم»، وإنّ الخارج أكثر رأفة بلبنان من أهله.
غير أنّ بلداً لا تحكمه سلطة تمتلك شرعية حقيقية، سيبتلع هذا القانون كما ابتلع غيره، وستبقى الودائع في غياهب النسيان، وما سيصل إلى الناس لن يكون أكثر ممّا يصل إليهم اليوم. ومع ذلك، لن تكون هناك محاسبة، ولا مَن يحاسبون.
وفي السياق نفسه، فإنّ الانتخابات النيابية التي يعوّل عليها اللبنانيون عادة لإنتاج سلطة جديدة، قد لا تُجرى أصلاً، بفعل تواطؤ القوى الكبرى في البلاد. وحتى الوصيّ الخارجي لن يضغط باتجاه إجرائها ما لم يضمن سلفاً نتائج تتناسب مع برنامجه ومصالحه.
وفي المقابل، ينشغل الناس بخطابات وتقريع وتشهير، لن يكون لها أيّ تأثير فعلي على خياراتهم، إذ يتّضح يوماً بعد يوم أنّهم يزدادون التصاقاً بما يرونه ملاذهم الآمن، وعندها تفقد الانتخابات معناها وجدواها.
وحتى أولئك الذين يطلقون على أنفسهم صفة «ممثّلي الأكثرية الصامتة»، ليسوا في الحقيقة سوى أصوات تنتمي إلى التركيبة نفسها، وإن ادّعت العكس. فهم ينكرون على الناس حقيقة أساسية: لا وجود في لبنان لأكثرية صامتة، وأن الساعين إلى تغيير جذري هم أقلية محدودة، لا تملك، حتى الآن، القدرة على قلب المعادلة.
وفي حالة القوى السياسية، تبقى العصبية الطائفية أو الجهوية الأداة شبه الوحيدة للتعبئة، فيما يغيب عن المشهد أيّ نقاش جدّي للانتخابات من زاوية إحداث تغيير جوهري في بنية النظام.
فهناك من يخشى رفع شعار إسقاط النظام القائم، وهناك من يتجنّب خدش جدران تفصل بينه وبين حلفائه، كونها من زجاج ولا تحتمل أيّ ضغط. وفي المقابل، ثمّة من يصرّ على إبقاء البلاد رهينة أوهام الأعداد والتمثيل والحقوق والصلاحيات، في وقت تعاني فيه البلاد من كلّ أمراض العصر، من دون أن يميّز أيّ من هذه الأوبئة بين طائفة وأخرى أو جماعة وأخرى.
أمّا في حالة الإقليم، فيعيش لبنان بالقرب من وحش لا يرى حوله سوى النار، ولا يكتفي بما راكمه من قتل وجنون، بل يبدو مستعداً للذهاب أبعد بكثير ممّا شهدته المنطقة خلال العامين الأخيرين. وهو وحش يعتقد بأنّ قوته تمنحه الحق في فعل ما يشاء، في فلسطين ولبنان وسوريا، أو في أيّ مكان يختاره.
وحش منقطع الصلة بعالم الإنسان، وليس منطقياً أن يُتوقّع التعامل معه ككيان أو جهة أو جماعة يمكن التعايش معها. ورغم أنّ التخلّص من هذا الوحش مسار طويل، بالغ الكلفة والتعقيد، فإنّه لا يترك لضحاياه خياراً آخر سوى المقاومة الشاملة، وبأدوات لا تشبه، في طبيعتها وشروطها، كل ما عرفه عنّا سابقاً.
إنه عام التحدّيات القاسية. وليس أمام كل منّا سوى أن يعيد النظر في أحواله، وأن يحسم موقعه بوضوح.
وهو قرار لا تنفع معه أساليب الاحتيال، ولا يجدي فيه الترهيب أو الترغيب.
قرار واحد لا وجوه متعدّدة له، سيكون واضحاً بلا لبس مهما اشتدّ الغبار من حوله.
وحالُنا، نحن أهل المقاومة، يقول بوضوح، إنْ لا مناصَ من مواصلة الاستعداد لمواجهة آتية حتماً، على أمل أن يكون في ما نقوم به ما يجعل نتائجها أقرب إلى حقوقنا البديهية، لا إلى أحلامنا الكبرى.
ابراهيم الامين- الاخبار
المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع "صدى الضاحية" بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و"الموقع" غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك.



