عند الإعلان عن استشهاد سماحة السيّد في الثامن والعشرين من أيلول الماضي، بدأت نعيي له بالقول: أظننتم أن يكون في عمره هذا، يجلس تحت «عريشة» عنب، هانئاً في بهو منزله، يشرب الشاي، ويجلس مع أقرانه في هدأة بال وراحة؟ ولكنه أبى إلا أن يكون إماماً، يتقدّم الصف المسؤول عن هموم أمّة، يذود عنها، فيرضى بشظف العيش، وكثرة التنقل والتواري، منتظراً شهادته في أي لحظة.
لاحقاً، كشفت عائلته عن أمنيته البسيطة جداً، لرجل بحجمه، في أن يجلس مع زوجته، يحتسيان الشاي، محاطاً بصفوف من الكتب. كانت هذه الصورة الجميلة في بند أحلام السيّد ومخيّلته، وعلى بساطتها، اختار سلوك طريق آخر تعرفه كل الدنيا به.
كان والله سدّاداً لنحور العدو، حسن الشمائل، ميمون النقيبة، صادقاً في حديثه، صدوقاً في وعده، سمحاً على حاضنته، يقوم بمنزلة أبي العيال فيهم، برّاً في أهل بيته، تقيّاً ورعاً في إيمانه، ليّناً على أصحابه، شديداً حازماً على خصومه، قائداً محرِّراً في مسيرته، وأميناً على الأرض والأرواح والدماء في سيرته؛ سريرته كظاهره، لا خبث ولا مراء في قوله وفعله. صوت العقل يوم تتشتت الأذهان، وأرض الثبات يوم نصاب بالهزّة، صاحب ابتسامة تطمئن قلوبنا وتغيظ العدوّ وتكيده، اسمه حسن كوجهه، وفي كنيته النّصر؛ يليق به مقام القيادة، وأكثر منه مقام الشهادة.
كأني به الآن يلتقي مع ولده هادي، فهو الشهيد أبو الشهيد، ينظر في وجوه من سبقوه من الشهداء، راحلاً عنّا بجسده، تاركاً فينا نهجاً وطريقة، لا تختلُّ بها شؤون إخوته في السّلاح والدّم.
كنا نقول دوماً: لا أقامنا الله في أرض أو أبقانا في زمان، ليس فيهما أبو هادي. أما وقد جاء قضاء الله، وأنا بين مشيعيه إلى مثواه، فلا أقامني الله في أرض أو أبقاني في زمن، لا أكون وفيّاً فيهما لنهج أبي هادي، منافحاً عنه بما بين يديّ من قوّة وعزم، أستودع روحي في جسده كحالي ممن ذهبوا لحضور وداعه بعد ساعات قليلة.
هذا يوم يفرح به الصهاينة، لكن وعد السيد الشهيد فيهم نافذ: «اضحكوا قليلاً، وستبكون كثيراً»!
ما أزال يا سيدي أعود لكلامك وخطاباتك. لا يعنيني كثيراً ما يُنشَر في الإعلام تحت بند التحليل السياسي والعسكريّ، فقد يكون كلاماً موجّهاً لخدمة فئة ما، لذلك ألجأ عموماً لمصدر أساسي في المعلومة وأحاول فهمه بما يتناسب مع الهرمنيوطيقا (المسبقات المعرفيّة) التي لدي. ما أعلمه حقاً أنني في بداية تشكل وعيي، شهدت انتصار عام 2000، ثم هزيمة العدو في تموز المجيدة 2006، ومع مرور الوقت وصلت إلى نتيجة مفادها أن الصّدق السياسيّ صفة نادرة جداً، لا أجد في بلادنا من يتمتع بها إلا ثلاثة، أنت أولهم يا سماحة الأمين الشهيد.
الصدق السياسي يعني أن لا يكون الكلام عروضاً في الهواء، أو تعبيراً عن أحلام بعيدة المنال، إنما كلام واقعي عقلاني صرف، يفهم فيه من يطلقه قدراته بالدرجة الأولى، قبل أن يفهم الخصم وقدراته. لهذا كلّه تهمّني كل كلمة قالها سماحته، وكل وعد أطلقه، ولا يخص ذلك المقاومة وحدها، بل يتعداها لفهم أي مسألة سياسيّة.
وما نزال إذا اشتد الخطب علينا، أن يستشهد قائد أو تحصل مجزرة، أو تنوبنا نائبة، ننتظر إطلالة سماحة السيّد في أسبوع الشهيد كذا، وسنويّة القائد كذا وكذا، يواسينا، ويضمد الجراح. أما اليوم؛ فمن يواسينا فيك؟ وهل من كلام يصلح تأبيناً لك ويفيك حقّك؟
ثأر السيّد باستمرار المقاومة، وتحرير فلسطين، كل فلسطين، والصلاة في القدس، التي بذل دمه على طريقها، تنفيذاً لوصيته.