حارب العقل الفلسطيني على مدى عقود فكرة تهويد الأرض. وكافح بعقله، إلى جانب الحجارة في يده، واقعه الجديد منذ لحظة النكبة، حيث أريدَ له أن يرضخ ويقرّ بأنّه دخيل على الأرض وبأنّه الحلقة الأضعف.
هذه المحاربة وهذا الكفاح، كانا مما وسمَ فعلَ المقاومة بالخلود. فهي مقاومة لا تموت، لأنّ المقاوم فيها هو صاحب حقّ، مقاوم أصيل قوّته في حسّ الانتماء، وفي تجذّر الهويّة وعصيانها على التذرية.
ولم تكن مقاومة الفلسطيني وحدها ما “ينكّد” عيشة المستوطن الإسرائيلي، فــــ “الدولة” اليهودية الثالثة أو “إسرائيل”، تعيش اليوم هاجس عقدها الثامن الذي يثبت التاريخ والروايات المنقولة أنّه الحدّ الأقصى لامتداد هذا الكيان، على غرار الدولتين السابقتين، أي مملكة داوود وسليمان ومملكة الحشمونائيم.
فهذا الكيان طالما كان يواجه، لسبب ما، لمقاومة ما، حقيقة تداعي بنيانه بعد 8 عقود من الحكم. الأمر أشبه في علم الفيزياء بحركة المقذوف (projectile motion)، حيث يرتفع المقذوف إلى نقطة قصوى، يبدأ من بعدها بالتهاوي بفعل عاملي الجاذبيّة وذرّات الهواء. وهما عاملان طبيعيّان تماماً.
ففعلُ المقاومة إذا ما كان أصيلاً، فعل منبثق من ميل طبيعيّ تماماً. وكل ما كان طبيعياً من غير الممكن أن يتوقّف أمام أيّ حركة مصطنعة، كتأثير المقذوف، أو سطوة الاحتلال.
ويتواءم فعل المقاومة مع خيار الاستشهاد أو يكمّل الأخير الأوّل، ليكون الأوّل أكثر تأثيراً في الوعي الذاتي أو الوعي الاجتماعي لصاحب القضيّة، وكذلك في الوعي الآخر الذي قد يشطح في المخالفة، فيذهب إلى التشكيك بأصالة الفعل المقاوم وجدواه وجدارته في تشكيل الطينة الأولى لبناء السيادة والكرامة.
إنّ الاستشهاد من أجل هدف أو قضيّة هي قضيّة حقّ في وجه باطل، يعدّ مكوّناً تاريخياً يعزّز من خلال التضحيات التي ينطوي عليها، الوعي الاجتماعي، وبالتالي فهو عنصر ملهم للأجيال في بحثها عن المسار الصحيح.
فالشهادة بالمنظور الفلسفيّ، تضحية نبيلة تجسّد القيم المتعالية من شجاعة وإيثار وفداء في سبيل قضيّة أكبر مثل الحقّ والعدالة والحريّة.
وبذلك، فإن مفهوم الشهادة يخرج من النطاق الضيّق للفقدان أو الخسارة، ويستحيل إلى مكسب يتجاوز مصلحة الفرد الدنيويّة، حيث يحمل الخير للوعي البشريّ وللمسار الأخلاقي للشعوب، ولذا فغايته متعالية تتجاوز الغايات المادية. بيد أنه يصبّ في مصلحة الفرد الأخرويّة، حيث وعد الله الشهداء بالخلود والجنان، وهم الأحياء عند ربّهم والمرزوقون في الدين الإسلامي.
ولعلّ قيمة الشهادة تكمن في كونها ذات ثمن باهظ جداً، يتطلّب أعلى مستوى من الشجاعة والإقدام، وليس في المنفعة التي تعود بها على الإنسان بالمعايير الدنيويّة. غير أنّ القيمة لا ترتبط بحجم البذل الذي يجسّده الشهيد بروحه ودمه فحسب، وإنما بمدى ارتباط هذا البذل بالإيمان بالقضيّة؛ قضيّة الحقّ والحريّة والعدالة، وإلا لكان الانتحار أكثر الأعمال شجاعة.
نموذج ذلك استشهاد الإمام الحسين بن عليّ في كربلاء. وتعدّ مأساة عاشوراء أكبر المآسي البشريّة لناحية حجم التضحيات الإنسانية.
فعاشوراء درس في الشهادة بشتّى أشكالها، الفقد بكلّ أنواعه، فقد الأب والابن والأخ، وحزن اليتامى والثكالى والأرامل.
حزن الأسرى والسبايا. في قراءة واقعيّة تأخذ بعين الاعتبار أنثروبولوجيا الحروب، تتجلّى مفاهيم العطاء بأعلى تمظهراتها في واقعة الطفّ. وقد أصبحت هذه الواقعة المدرسة والمثال لكلّ ساحات معارك الحقّ في وجه الباطل.
فعاشوراء بدّلت الوعي الاجتماعي على امتداد التاريخ، وليس حصراً بزمان وقوعها. وهذا ما يفسّر تزايد إحياء العزاء الحسيني عاماً بعد عام، وعصراً بعد عصر من دون أن تخبو شعلة هذا الألم المجبول بالفخر والعزّة والإباء والجمال، الذي تجسّد بمطلق معانيه وأعمقها، حتى يكون كلّ ما دونه في حياة الإنسان بعد ذلك، هيّناً وقابلاً للتحمّل، إذا ما قورنَ بحجم العطاءات الكربلائيّة. هذا ما يجعل كلّ أمّ لشهيد اليوم تقول ورأسها مرفوع “ما رأيتُ إلا جميلاً”.
أمّا التاريخ المسيحي، فيشهد كذلك على الكثير من الملاحم التي استشهد فيها القدّيسون بأفظع الطرق في سبيل الإيمان والدين المسيحي.
وقصص القدّيسين وصور استشهادهم لا تقلّ وحشيّةً عن مشهد صلب المسيح في الديانة المسيحية، حيث كانت آلام المسيح نتيجة أشدّ اللحظات تناقضاً في التاريخ المسيحي على ما رأى سورين كيركجارد؛ لحظة تجسّد الأزليّ في الزمنيّ.
أما عن فظاعة الصورة، ففي الذهن المسيحي والمسلم صور لامتناهية من الألم الإنساني الذي خلّد أصحابه من سيزيف وبروميثيوس في الميثولوجيا الإغريقيّة، إلى الراهب القبطي ميناس الذي قطّعت أشلاؤه وحرّقت ووضعت في كيس، لأنّه عارض احتلال الروم لبلاده مصر وتدنيس كنائسها بقدوم الكفّار من أتباع خلقيدونية.
ولعلّ الجمال الذي يراه الإنسان المؤمن في قلب الابتلاء، هو السعادة التي يشعر بها والتي ترتبط بالفضيلة، بل بأسمى الفضائل “الشهادة”. فالسعادة الأرسطيّة ارتبطت بالفضيلة، والتي ارتبطت بدورها بفعل التفكير والتأمّل.
وعند أفلاطون هي التشبّه بما هو إلهيّ، وعند سبينوزا كانت في الانسلاخ عن الرغبات والأهواء، وعند أهل العرفان، السعادة في معرفة الله “ومن عرف نفسه فقد عرف ربّه”.
والشهادة عند هؤلاء ما هي إلا عرفان عمليّ يمارسه الإنسان مختصراً على نفسه طريق المعرفة الطويل. والشهادة أحد الطرق المختصرة إلى معرفة الله، من هنا كان الألم المرتبط بها ألماً نبيلاً ومعاناة لذيذة.
يذكر المفكّر الإسلامي، عبد الله جوادي آملي، بأنّ مشهديّة الاستشهاد بأفظع مكوّناتها، هي صورة تزعج الأحياء وتحزن قلب المقرّبين من الشهيد.
إلا أنّ الشهيد لا يشعر في تلك اللحظة بفظاعة المشهد. مشهد استشهاده وهو تحت الركام أو مقطّع الأوصال أو مخضّباً بدمائه.
وإنما لا يجد نفسه إلا وقد انتقل إلى معبر يقف فيه الملائكة لاستقباله. ذلك أنّ الشهيد انتقل من الحياة المادية إلى الحياة الملكوتيّة ولم تعد مكوّنات الحياة المادية تزعجه في شيء.
بل لقد تحقّقت عنده المعرفة الكاملة، بعدما خلع عنه ثوب التعلّق الدنيوي والبعد المادي من وجوده والخواطر الشهوانية والعوارض النفسانيّة، فأمسى كما يخبرنا مهدي النراقي في “جامع السعادات”، وجوداً معنويّاً صرفاً، مستعداً لتلقّي الفيوضات الإلهية والرحمات السماوية، ويصل إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. وهذا لا يقتصر على الشهداء، وإنما يشمل المؤمن والعارف والباحث عن الله.
لا شكّ بأنّ حجم التضحيات التي شهدها إنسان اليوم خلال عدوان “إسرائيل” الأخير على شعب غزّة ثمّ لبنان، وعلى كبار القادة الذين ارتبط بهم الإنسان عاطفياً وذهنياً وعقائدياً قبل أي شيء، سيترك أثراً إنسانياً معرفياً عميقاً في الوعي الاجتماعي العربي والإسلامي. أثر يحادث الجرح الغائر في وجدان الأمّة.
ولا شكّ بأنّ هذه التضحيات لن تذهب سدى، ليس على صعيد زوال الكيان الصهيوني الذي لا مفرّ له منه فحسب، وإنما كذلك على صعيد إعادة بلورة العقل وتموضع بُناه المعرفيّة الإدراكيّة، حيث بالإمكان القول إنّ هذا الدم سيكون كفيلاً بانتشال الإنسان الحالي من مستنقع الآلة والاستهلاك المفرط والمادية المريعة الذي كاد أن يغرق فيه، لولا هذه الصفعة، هذه الهزّة الوجوديّة العظيمة التي اختبرها، وهو يشهد على توحّش الآلة الاستكبارية نفسها التي قدّمت له كلّ أدوات التقانة والعلم والإغواء المعرفي حتى ساقته إلى الغربة الوجوديّة.
لقد أنقذ شهداء القضيّة الفلسطينية في فلسطين ولبنان خلال العام الأخير، كلّ من بقوا، من براثن الاستعمار الثقافي، ومن مخالب الغزو الإعلامي، حتى نكون شعوباً لا تُخدع ولا تقع في مصيدة سحر الغرب، وخططه الذكيّة الماكرة وإرادته المقنّعة بألف قناع وقناع، والتي تتبدّل أوصافها وأسماؤها مع تبدّل اللاعبين.
لقد نجا فعل المقاومة العسكرية في غزة وفي لبنان، ونجح المجتمع المقاوم في الخروج منتصراً عقب عدوان أيلول المتوحّش، لأنّه صاحب الأرض. ونجت المقاومة في قطب المحور الأساس؛ إيران، التي أرادوا كسر عنفوانها وعزّتها على هيئة “الربيع العربي”، فسرّعوا من عمليّة التداعي الوجودي والهوويّ في سوريا- أحد أقطاب المحور- علّ أمواج الخراب تطالُ تخومَ الجمهورية الإسلامية.
لكنّما أنقذنا الشهداء بالمسار الذي رسموه بالدم، وبما هيّأونا له من إعداد للنفس أمام كلّ احتمالات التغيير في ملامح الشرق الأوسط الجيوسياسيّة.
أنقذتنا المقاومة، فنحن اليوم في أمان، لأنّ وعياً جديداً أُعيدت صياغته في المنطقة، ليكون قادراً على استيعاب تسارع الأحداث. وما أعاد صياغته كان الدماء التي بذلت على طريق الحقّ فيتجلّى أكثر للسالكين، وللصامدين.
أنقذنا الشهداء فنحن اليوم مبصرون، أوفياء للنهج لذاته، خارج السياقات، أعصياء على تطويع إرادتنا وتليين مقاومتنا. تماماً مثلما أنقذ الحسين الإسلام ومثلما أنقذ المسيح المسيحيّة ومثلما سينقذ المنتظر البشريّة.