مقالات

الشعب اللبناني مكتئب؟

في ظل ما يعانيه لبنان من أزمات متتالية، تفاقمت الآثار النفسية بشكل غير مسبوق نتيجة العدوان الإسرائيلي الأخير. هذه الحرب، التي خلفت آلاف الضحايا وعشرات الآلاف من الجرحى، ألقت بظلالها الثقيلة على الصحة النفسية للبنانيين. ومع هذا المشهد المأسوي، تبرز تساؤلات حول كيفية التعامل مع هذه الأزمات النفسية. هل يمكن أن تكون الدعوات المتزايدة للتفكير الإيجابي مخرجا حقيقيا؟ أم أنها قد تصبح وسيلة لإخفاء الألم؟

أعباء نفسية لا تُحتمل

بحسب مصدر في وزارة الشؤون الاجتماعية معني بملف السلامة النفسية خلال فترة الحرب، فان “الإحصائيات تشير إلى أن 25% من اللبنانيين يعانون من اضطرابات نفسية، تتراوح بين الاكتئاب، القلق، واضطرابات ما بعد الصدمة. كما أظهرت الدراسات أن 20% من اللبنانيين تعرضوا للاكتئاب مرة واحدة على الأقل. كذلك، تُسجل حالة انتحار كل ثلاثة أيام في لبنان، وهو مؤشر على تصاعد الأزمات النفسية. تُظهر هذه الأرقام الصادمة مدى تأثير الأزمات السابقة واللاحقة في الصحة النفسية للمواطنين”.

ويذكر المصدر لـ “الديار” ان “الاشتباكات المسلحة في الآونة الاخيرة لم تقتصر آثارها على الخسائر البشرية فحسب، بل تركت جروحا نفسية عميقة نتيجة فقدان الأحباء، بالإضافة الى الإعاقات الدائمة، والدمار الاقتصادي والاجتماعي. فضلا عن تفجيري اللاسلكي والبيجرز اللذين لم يسفرا فقط عن اضرار مادية، بل خلّفا إصابات دائمة لـ 4000 شخص، مما زاد من تفاقم الأعباء النفسية والاجتماعية”.

الإيجابية غير المشروطة: الوجه الآخر للعملة

ويضيف المصدر، “في مواجهة هذه الأزمات، قد يبدو التفكير الإيجابي سبيلا، لكنه في الوقت نفسه قد يمسي ثقلا إضافيا عندما يُفرض كضرورة مطلقة. اذ ان التظاهر بالإيجابية التامة يولّد المشاعر السلبية، مما يزيد من تراكم الضغوط النفسية الداخلية، ويفاقم من احتمالية الإصابة بأمراض نفسية مثل الاكتئاب المزمن واضطرابات القلق”.

في المقابل، المشاعر السلبية ليست دائما أمرا سيئا؛ فهي تمثل رد فعل طبيعيا على الأزمات، وتعد جزءا أساسيا من آليات التواؤم النفسي. لذلك، يؤدي تجاهل هذه المشاعر بدعوى التمسك بالإيجابية القسرية إلى كبتها، ما يضاعف من الأثر النفسي للأزمات”.

التعامل مع العواطف المزعجة: بين القبول والمعالجة

ويقول: “تؤكد الدراسات النفسية أن التعامل مع المشاعر السلبية بوعي هو المفتاح لتعزيز الصحة النفسية. فبدلاً من اهمال هذه الاحاسيس، يجب تقبلها كجزء من التجربة الإنسانية والعمل على معالجتها. ويمكن التخفيف من حدة التوتر من خلال تقنيات بسيطة مثل الكتابة عن الانفعالات أو التحدث مع مختص نفسي. وفي هذا المجال، أظهرت الأبحاث أن الأفراد الذين يتعاملون مع أهوائهم بذكاء، من خلال فهم الأسباب والبحث عن حلول عملية، يتمتعون بصحة نفسية أفضل وقدرة أكبر على التأقلم مع المحن”.

التفاؤل القهري “خطر”

ويبين المصدر ان “انتشار الإيجابية الشاملة تجاوز الأفراد ليشمل بيئات العمل والعلاقات الاجتماعية. في أماكن العمل، يُطلب من الموظفين غالبا أن يظهروا إيجابيين بغض النظر عن حجم الضغوط التي يواجهونها. هذا النوع، المعروف بـ “الإيجابية السامة”، ينتج منه التغاضي عن المشاعر الحقيقية وإضعاف الروابط الإنسانية. أما في المجتمع، فإن ثقافة التظاهر بالسعادة المستمرة تُسبب فجوة عاطفية بين الأشخاص، حيث يخشى الكثيرون من مشاركة مشاعرهم السلبية خوفًا من أن يُنظر إليهم على أنهم ضعفاء أو غير قادرين على التفكير بأمل”.

كيف يتجلّى الوعي النفسي المتوازن؟ يجيب “يكمن الحل في تبني نهج معتدل يعترف بالمشاعر السلبية ويتيح التعامل معها بشكل بنّاء. تكشف الأبحاث النفسية أن الاعتراف بالمشاعر ومعالجتها يساهم في تحقيق التناغم النفسي. لذلك، فانه على المستوى المحلي حيث تعصف الأزمات والحروب بالسكان، من الضروري تعزيز ثقافة تقبل الاحاسيس ودعم الصحة النفسية من خلال حملات توعية ومبادرات مجتمعية تُشجع الأفراد على التعبير عن معاناتهم”.

اول مرحلة.. الاعتراف

ويشدد المصدر على ان “الإفصاح عن المشاعر السلبية، يصبح خطوة أساسية لبناء وعي نفسي مستقر. فالتصريح، يعني فهم الحالة وقبولها دون إنكار أو خوف من الحكم عليها. هذا الادراك يبدأ بالتصالح مع الذات والاقرار بأنها ليست ضعفًا، بل استجابة طبيعية للظروف المحيطة”.

ويتطرق الى كيفية تحقيق الوعي بالأسباب وذلك من خلال:

1. التعبير: يمكن القيام بذلك عبر الكتابة عن المشاعر اليومية أو الحديث عنها مع شخص موثوق. هذا يساعد على تفريغ الضغط النفسي وتوضيح الأسباب الكامنة وراء هذه الاهواء.

2. طلب الدعم النفسي: اللجوء إلى مختص نفسي ليس عيبا، بل هو خطوة فعّالة لمعالجة الأزمات النفسية. يمكن للمعالج توفير الأدوات والمهارات للتعامل مع الانفعالات السلبية بشكل صحي.

3. ممارسة التأمل أو الاسترخاء: تساهم هذه التقنيات في تهدئة العقل وزيادة التركيز، مما يمكّن الفرد من التعامل مع مشاعره بهدوء.

4. الوعي بالمحفزات: تحديد الأمور التي تثير المشاعر السلبية والعمل على تقليل تأثيرها، سواء من خلال تغيير الروتين أو تحسين البيئة المحيطة.

5. تعزيز المرونة النفسية: التعامل مع الشدائد كفرص للتعلم والنمو. هذا لا يعني إنكار الألم، بل تحويله إلى دافع للتطور.

ويؤيد المصدر “اللجوء الى هذه الاستراتيجية وان كان ذلك يُعتبر تحديًا، لكنه أيضًا خطوة ضرورية للحفاظ على التوازن النفسي. الوعي النفسي المتوازن يعني فهم أن المشاعر السلبية ليست نهاية المطاف، بل هي فرصة لإعادة ترتيب الأفكار والتعامل مع الحياة بمزيد من المرونة والقدرة على التحمل”.

ويختتم المصدر بالتنويه الى ان “الإيجابية المدعاة ليست الحل السحري لمواجهة النكسات النفسية. في بلد يعاني من تداعيات الحروب والانهيارات الاقتصادية، لا بد من الاعتراف بالمشاعر السلبية والعمل على معالجتها بوعي. فالعواطف المؤلمة والمبهجة على حد سواء هي جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، والتوازن بينهما هو ما يضمن الصحة النفسية الحقيقية”.

ندى عبد الرزاق _ الديار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى