عندما تحدث وزير الخارجية الأميركية الأسبق كولين باول لأول مرة عام 1999 عن ما يسمّى بـ”مشروع الشرق الأوسط الكبير / الجديد” وهو ما تحوّل إلى صيغة رسمية في القمة التي دعا إليها الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش في 9 حزيران/ يونيو 2004 لم يتوقع الكثيرون أن هذا المشروع سيتحوّل إلى واقع عملي في المنطقة يحقق من خلاله الأميركيون ومعهم، من دون شك، الكيان الصهيوني أهدافهم على الصعيدين الإقليمي والدولي على المديين المتوسط والبعيد.
ويفسر ذلك ما آلت إليه الأمور في المنطقة، على الرغم من حالات المدّ والجزر التي شهدتها المنطقة، وبالتالي العالم بين الحين والحين، وأخّرت تحقيق الهدف النهائي لهذا المشروع الذي خدم وسيخدم في نهاية المطاف الكيان الصهيوني.
وكانت المفاجأة، إن لم نقل الحقيقة المرة، هو أن الذين خدموا ويخدمون هذا الكيان هم المسلمون والإسلاميون بكياناتهم الرسمية والتنظيمية والشخصية كافة، في جميع الدول.
فإذا تركنا جانباً أنظمة الخليج المتواطئة جينياً مع هذا الكيان وأصحابه من الصهاينة الأوائل، فما علينا إلا أن نعود إلى مضمون المشروع الأميركي المدعوم أوروبياً، والذي أراد منذ البداية تسويق التجربة التركية إلى الدول العربية والإسلامية بعد أن جرّب الغرب الإمبريالي ما يسمّى بالإسلام المتطرف سياسياً كان أم مسلحاً، في صيغة “القاعدة” وما نتج منها، عربياً وإسلامياً ودولياً، بما في ذلك تجربة طالبان قبل الاحتلال الأميركي /الأطلسي لأفغانستان وخلاله وبعده.
وصل حزب “العدالة والتنمية” ذو الأصول الإسلامية إلى السلطة في انتخابات ديمقراطية في بلد نظامه علماني وشعبه مسلم ونمط معيشته مختلف عن شعوب المنطقة لأسباب عديدة، أهمها التجربة الديمقراطية/ العلمانية بكل إيجابياتها وسلبياتها. وحظي هذا الحزب منذ البداية باهتمام دول وشعوب العالمين العربي والإسلامي باعتبار أن تركيا وريثة الدولة والخلافة العثمانية الإسلامية التي تحظى بعلاقات واسعة مع الدول الأوروبية والغربية كونها عضواً في الحلف الأطلسي منذ 1952 ومرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، وحتى لو كان ذلك منذ 65 عاماً.
وجاء ما يسمّى بـ”الربيع العربي” ليساعد تركيا على لعب دور أهم وأكبر بعد أن قال الغرب الإمبريالي إنه سيسوّق الإسلام المعتدل إلى دول المنطقة ليتحوّل هذا الإسلام إلى متطرف، كما هي الحال في تجربة تنظيم “داعش” وأمثاله في ليبيا وتونس ومصر وسوريا والعراق وحتى اليمن، ثم “النصرة” في سوريا.
وجاءت أحداث غزة وفلسطين عموماً ثم العدوان الصهيوني على لبنان وما سبقه من عدوان صهيوني متكرر على إيران وسوريا لتساعد أصحاب المشروع الشرق أوسطي على تحقيق أهدافهم النهائية في إعادة صياغة المنطقة من جديد وفق المزاج الصهيو / أميركي/ إمبريالي.
وهو ما سيتحقق لها قريباً بعد أن استولت الفصائل المسلحة ذات النفس الإسلامي المعتدل والمتطرف على السلطة في دمشق التي صمدت في وجه همجية “الربيع العربي”، وقبل ذلك منذ قيام الكيان العبري في فلسطين.
وسيسعى هذا الكيان العبري من خلال هذه السلطة الجديدة في دمشق لتحقيق أهدافه التالية: أولاً، إغلاق ملف القضية الفلسطينية إلى الأبد، وبالتالي إنهاء ما فشل في تحقيقه خلال العدوان الأخير على لبنان بعد أن يغلق النظام السوري الجديد الحدود مع لبنان، ثم يتآمر على حزب الله انتقاماً لدعمه الدولة السورية خلال سنوات ما يسمّى بـ”الربيع العربي” الدموي.
ويبدو واضحاً أن هذا ” الربيع” وبعد سقوط دمشق سيتحوّل إلى خريف مظلم سيكون خلاله الجميع، من دون استثناء، في خدمة الكيان الصهيوني الذي سيضرب ضربته القاضية من خلال تضييق الحصار على إيران بعد أن خسرت سوريا ولبنان، وثانياً من خلال تحقيق المصالحة ليس السياسية بل العقائدية عبر التطبيع الرسمي مع دمشق بنظامها ” الإسلامي” الجديد المدعوم من تركيا بحكم “العدالة والتنمية” ذي الأصول الإسلامية بالنفس الطائفي.
وهو ما ساعدها على لعب الدور الرئيسي في عملية “الربيع العربي” منذ بدايته، وأخيراً في إسقاط ” نظام الأسد ” خلال أسبوع، وهو ما استعدت منذ سنوات طويلة، وخصوصاً خلال الأشهر القليلة الماضية بالتنسيق والتعاون المباشر أو غير المباشر مع موسكو وواشنطن، بل وحتى أنظمة الخليج المتواطئة التي يبدو واضحاً أنها وافقت بل ودعمت المشروع التركي الذي حقق للرئيس إردوغان تفوقاً ليس فقط سياسياً وعسكريا بل أيضاً عقائدياً ونفسياً بعد أن أصبح حاكم الظل الحقيقي في دمشق.
خصوصاً بعد أن نجح في مشروعه العقائدي في ليبيا والصومال من خلال دعم الفصائل الإسلامية الموالية له فأصبح للجيش التركي وجود فعال في هاتين الدولتين، بالإضافة إلى العراق وقطر التي كانت المموّل الرئيسي لكل المشاريع التركية منذ بدايات ما يسمّى بـ”الربيع العربي”، وتريد “تل أبيب” أن يتحوّل إلى شتاء قارس بعد أن يحقق لها الخريف المظلم ما تبقى من أهدافها العقائدية الدينية.
وسيأتي الرئيس ترامب الشهر القادم ليجعل منها واقعاً عملياً بالتنسيق والتعاون مع ورثة الخلافة العثمانية وحكام عاصمة الأمويين الجدد وكلهم برضى ورعاية “خادم الحرمين الشريفين” الذي لا ولن يتأخر ومع حلفائه في دول الجوار للإعلان عن ولائهم القديم /الجديد لأسيادهم في الغرب الإمبريالي / الصهيوني، الذي كان وما زال وسيبقى عدواً لكل شعوب ودول المنطقة بكل أطيافها ومكوّناتها القومية والدينية والمذهبية التي استغلها الغرب دائماً بذكاء وبفضل أنظمة التواطؤ والعمالة والخيانة منذ أكثر من مئة عام.
وهو ما أوصل المنطقة إلى ما وصلت إليه خلال السنوات القليلة الماضية بعد ما يسمّى بـ”الربيع العربي”، والآن بعد سقوط دمشق الذي ستكون له نتائجه المدوية ليس فقط في الداخل السوري بل على الصعيد الإقليمي برمّته، بل وحتى الحسابات الدولية. ويفسر ذلك “الضوء الأخضر” الذي أضاءه الرئيس بوتين للرئيس إردوغان، ومن دون أن يكون واضحاً ما المقابل لقاء ذلك.
ناسياً أو متناسياً أن الجولاني ومن معه من الإرهابيين ذوي الأصول الشيشانية والإيغورية ( الصين ) والأوزبكية وغيرها لا ولن ينسوا الدعم الذي قدمه لبشار الأسد، وسينتقمون من روسيا إن كان عبر أفغانستان بحكم طالبان أو الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي في آسيا الوسطى والقوقاز، الحديقة الخلفية لروسيا.
وأثبتت بموقفها الأخير في سوريا أنها ليست بصديق يوثق به، هذا بالطبع إن لم نفسر كل ما جرى في إطار صفقة دولية جديدة راح الـسد و”قلب العروبة النابض” سوريا ومن كان معها من الحلفاء الصادقين والمؤيدين لقضايا الأمة العربية والإسلامية ضحية لها، أمام أنظار العالم وقبل ذلك كل العرب والمسلمين الذين باعوا ضميرهم للشيطان الأكبر والأصغر!