مقالات

بعد تهديده الأخير.. هل سيختلف ترامب الثاني عن الأول؟

التهديد الذي أطلقه الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخراً، ومطالبته بإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لدى حركة حماس قبل يوم العشرين من كانون الثاني/يناير المقبل، موعد استلام سلطاته رسمياً في البيت الأبيض، متوعداً الشرق الأوسط إذا لم تحل هذه القضية بجحيم غير مسبوق، تصريح يثير كثيراً من التساؤلات من حيث الدلالة والتوقيت، ويستوجب التوقف لقراءة سياسة ترامب المرتقبة حيال منطقة الشرق الأوسط، وتجاه ملف حرب غزة وملفات المنطقة عامة، وإزاء هذا التصريح المتعلق بقضية الأسرى على وجه الخصوص.

ثمة سؤال مهم في هذا السياق، ما الذي يمكن أن نفهمه من تصريحات ترامب الأخيرة؟ وهل سيختلف ترامب الثاني عن الأول أمام هذه التصريحات والمواقف التي أطلقها قبل دخوله البيت الأبيض بشكل رسمي؟

عديد من المراقبين قالوا إن ترامب الثاني سيختلف عن الأول، وروّجوا كثيراً لمثل هذه الرؤية، لكن ترامب بمثل هذه التصريحات التي تعكس تناقضاً سافراً مع وعوده التي أطلقها قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية، تكشف حقيقة مرحلة ترامب الثاني وعنوانها، وانحيازه السافر والمطلق إلى “إسرائيل”.

أما الجحيم الذي يتوعد به ترامب المنطقة بشكل عام، والفلسطينيين بشكل خاص، فهو جحيم موجود ومستمر، وكل ما يجري في قطاع غزة على مدار أكثر من سنة هو الجحيم بعينه، جحيم جرائم الحرب والإبادة الجماعية وجحيم التطهير العرقي وجحيم سياسة الحصار الخانق والتجويع، ناهيك بأعداد الآلاف من الشهداء والجرحى الذين وصل عددهم  إلى عشرات الآلاف من جراء قتل النساء والأطفال المدنيين من دون رادع .

التصريح الفاضح، هكذا أسمّيه، فمشكلة ترامب أنه يتحدث عن الأسرى الإسرائيليين، رغم أن المسؤول عن عدم عودة الأسرى حتى الآن هو نتنياهو وحكومته، فهو لم يأبه بحياة الأسرى الإسرائيليين طوال عام وأكثر من الحرب، وأفشل مقترحات صفقات تبادل عديدة باعتراف قيادات أمنية وعسكرية إسرائيلية، ولا يهمه إن قتلوا جميعاً؛ لأن المشكلة تكمن في أن كل ما يفكر فيه هو منصبه وموقعه واستمراره في الحكم مع شركائه، والتهرب من كل قضايا التحقيق التي تلاحقه حتى الآن،  ولو كانت “إسرائيل” تريد استرداد أسراها لاستردتهم منذ زمن بعيد، بعيداً من كل هذه الدماء التي سالت وما زالت تسيل من الشعب الفلسطيني.

من جهة أخرى، فإن وقائع الأرض، تزامناً مع تصريحات ترامب، تفضح حقيقة الأمر الذي يحاك في الخفاء، فما يجري على أرض غزة يكشف احتلالاً إسرائيلياً مباشراً، وأطماعاً بإعادة الاستيطان مع نيات ومؤشرات كبيرة توحي بتهجير الفلسطينيين، لتمرير مخططات حكومة نتنياهو الفاشية، ثم كرد إسرائيلي آخر على صمود المقاومة الفلسطينية في غزة وثباتها لأكثر من عام من دون تراجع أو استسلام أو تقهقر.

الرئيس ترامب بعد جلوسه في البيت الأبيض سيصطدم بوقائع سياسية كثيرة لا يستطيع أي سياسي تجاهلها تجاه ما يجري في المنطقة، وتحديداً الحرب على غزة ولبنان، فهو في تصريحاته تنكر لأربع حقائق أساسية في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي الجاري، وهذه الحقائق متمثلة بـ:

الأولى: تجاهله قضية الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، والذين بلغ عددهم أكثر من 16 ألف أسير فلسطيني، ولم يتحدث عنهم بكلمة واحدة، رغم معاناتهم من أوضاع قاسية في سجون الاعتقال.

الثانية: تجاهله حقيقة أن المعيق الأساسي لإنهاء قضية الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة هو نتنياهو شخصياً وحكومته، وليس الفلسطينيين، إذ رهن القضية لحسابات سياسية خالصة؛ خوفاً من انهيار ائتلافه الحكومي، في حال إبرام صفقة تبادل.

الثالثة: تجاهله أن أكثر من 2 مليون فلسطيني يعيشون كرهائن في قطاع غزة، ويواجهون قسوة النزوح وجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والحصار والتجويع .

الرابعة: تنكره أمام حقيقة مفادها أن نتنياهو هو المسؤول الأول عن مقتل عدد كبير من الأسرى الإسرائيليين من جراء القصف خلال الحرب، وأنه المسؤول عن خطر قائم قد يحل بحياة الذين بقوا أحياء نتيجة إصراره على عدم تنفيذ صفقة تبادل للأسرى .

بهذه المعطيات الأربعة يكون الرئيس ترامب قد بدّد كل الأوهام التي حاول البعض ترويجها أن ترامب الثاني سيختلف عن ترامب الأول، وهذا ما يثير  تساؤلاً مهماً، ماذا يريد أن يقدم ترامب لحليفه نتنياهو أكثر مما قدمه الرئيس بايدن؟ الذي صرّح مؤخراً أن إدارته قدمت لـ”إسرائيل” دعماً هو الأعلى في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية وصل إلى أربعين مليار دولار في أقل من عام، مع دعم مطلق  وأساطيل عسكرية في المنطقة.

ثمة سؤال مهم إزاء هذا المشهد، ماذا على الفلسطينيين أن يفعلوا إزاء العقلية الترامبية القادمة، وهل سيكون بانتظارهم جحيم أكبر من الذي يعيشونه؟

الواقع القادم يقول إن الفلسطينيين أمام تحد كبير قادم، وأن خطرين لم يسبق لهما مثيل يحدقان بهم، وهما:

الخطر الأول: خطورة مخطط التطهير العرقي المستمر والذي تخطط له حكومة نتنياهو ومعها الصهيونية الدينية في “إسرائيل”، والذي سيمتد إلى الضفة الغربية المحتلة.

الخطر الثاني:  خطورة مخططات ضم الضفة الغربية التي هي على رأس جدول أعمال حكومة نتنياهو في “إسرائيل”.

وبالعودة إلى السياسة الأميركية تجاه قضية الحرب على غزة، فهي تشهد أزمة إذ كانت قائمة على تقدير خاطىء وحسابات غير دقيقة، واعتقدت إدارة بايدن وفق معلومات استخبارية عربية قدمت لها أن القضاء على المقاومة الفلسطينية ما هو إلا مسألة وقت، وأن ذلك لن يستغرق وقتاً طويلاً، إلا أن صمودها الأسطوري وقدرتها على ممارسة الفعل المقاوم بعد 14 شهراً من حرب الإبادة المستمرة، إلى جانب جبهات الإسناد المختلفة، وتحديداً جبهة الإسناد من حزب الله في لبنان، أربك كل الحسابات وعلى رأسها الحسابات الأميركية التي وجدت نفسها تغرق شيئاً فشيئاً في منطقة الشرق الأوسط، وهي أكثر من يدرك تعقيداته ويهاب التورط في وحله، فتورطت في لبنان وقبل ذلك في العراق،  وأفغانستان حتى خرجت منها في عهد ترامب شخصياً.

الخلاصة التي تتضح إزاء هذا المشهد أن “إسرائيل” في كل مرة تنجح في جر الولايات المتحدة إلى الحروب، إذ ثبت في كل المحطات السابقة أن السياسية الأميركية تعاني من مشكلات كبيرة، ولا سيما في قراءة ملفات المنطقة وتفكيكها، وفهم بيئتها وتعقيداتها وتقديم الحلول المناسبة لكل ملف منها.

وهنا، يجب أن نستحضر كيف أطلق ترامب في ولايته الأولى صفقة القرن، وانتهت ولايته بلا شيء، وكيف اتخذ قرار الانسحاب من أفغانستان فراراً من النزيف المستمر هناك.

المنطقة بتطوراتها على مختلف الجبهات تمر بمرحلة انتقالية حرجة بين نظام تسوده الهيمنة القطبية آخذ في التفكك، ونظام تعددية قضبية قادم لا محالة، والتاريخ يقول إن الإمبراطوريات تحفر قبرها بيدها، ومن هذا المنطلق، فإن أي استمرار لرعاية أميركية للإرهاب الإسرائيلي في المنطقة بدت ملامحه تتضح، وحلم ترامب الثاني العمل على استمرار هذه الرعاية و العمل على صفقات تحقق حلم “إسرائيل” الكبرى سيفشل كما فشلت من قبل صفقة القرن، وفي نهاية المطاف، لن تجد الولايات المتحدة نفسها إلا أمام مزيد من التراجع، وبالتالي استمرار حال الانجرار الأميركي وراء “إسرائيل” لن يكون له إلا نتيجة واحدة هي عزلة أميركا، وهذه العزلة ستتطور إذا ما استمرت السياسة الأميركية في المنطقة بالنهج ذاته.

المصدر: الميادين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى