مقالات

تركوا بصماتهم وآثارهم الطيبة في بيوت الجنوب: أولو البأس والأخلاق مرّوا من هنا…

«مقشّرين بطاطا وعاملين أكل». تقول بتأثُّرٍ سيدة المنزل التي تصوِّر المقطع، وهي تردِّد كلازمةٍ «باركولنا بيتنا الشباب». رسائلُ مكتوبةٌ على دفاتر الأولاد المدرسيَّة، سيحفظها أصحاب البيوت في أكثر الأماكن حميميَّة داخل أرواحهم ووجدانهم

كانت الرسالة الأولى رسالةً عامَّة، مفتوحةً ومدوِّية، تردَّدت أصداؤها في المنطقة كلِّها، بل في العالم أجمع، الذي تابع تصاعد أحداث جولة القتال العنيفة طوال أكثر من شهرين. هذه كانت الرسالة الأساسيَّة، الرسالة الناريَّة، التي بدأ التمهيد لها قبل أكثر من سنة. وهي، ككلِّ رسائل الحرب، تُكتَب بحبرٍ يُراق على صفحة التراب وصفحات التاريخ، ليسجِّل على الأولى صكَّ المُلكيَّة العائد حتماً لمن يعرف الأرض ويعيش فوقها، بينما لا يَثبُتُ في فصول التاريخ وسنوات المستقبل إلَّا من يمتلك إرادة الصمود والمقاومة، والقدرة على طمس ما يكتبه العدو على الصفحة ذاتها التي لا تتَّسع لكاتبين بوجهتي نظرٍ متعارضتين، ومن لديه كذلك القدرة على المحاكمة والفهم واستخلاص العِبَر.

«العظمة مكوَّنةٌ دائماً من أشياء بسيطة»، يقول الروائي الهنغاري لاسلو كراسناهوركاي

هنا قد يكون القول الآتي قاسياً، أو مُثبِّطاً لمشاعر التفاؤل والسعادة، لكنَّ الصراحة توجبه: لا مجال للحديث الآن عن نصرٍ أو هزيمة، فقط لأنَّ المعركة لم تزَل مستمرَّة. لم تبدأ هذه الحرب الأقسى لتتوقَّف. هناك التقاط أنفاسٍ قبل المتابعة، جاء بطلبٍ من الراعي الأميركي الذي تغيَّر، ولأنَّ العملية العسكرية البريَّة فشلت في تحقيق شيءٍ يُذكَر. هي استراحةٌ بين شوطَي المباراة النهائيَّة، والاحتفاء بالفوز في هذه المُدَّة يؤدِّي إلى الخسارة. على الأرجح، فإنَّ فترة الهدوء هذه هي عودةٌ إلى مرحلة العمل الأمني، التي آلمت المقاومة والتي يتفوَّق فيها الإسرائيليون تقنيّاً ولناحية الاختراق والتجسّس، لذا يجب الحذر.

ليست الصراحة والحرص وحدهما ما يوجبان القول السابق، بل الاستناد إلى ما قاله الإسرائيليون أيضاً بأنَّ اتفاق وقف إطلاق النار «تكتيكيٌّ ومرحليّ»، وما قاله بنيامين نتنياهو بأنَّ «ما يجري ليس وقفاً للحرب، بل وقف لإطلاق النار، وقد يكون قصيراً»، وكذلك بالنظر إلى الاعتداءات التي تعرَّض لها بعض العائدين، وبدأت منذ الساعات الأولى لدخول الاتفاق حيِّز التنفيذ.

هم هكذا، لا يرضيهم شيءٌ سوى محو عدوِّهم. مشكلتهم في وجوده بحدِّ ذاته. القرار 1701 لم يرضِهم، واتفاق ترسيم الحدود البحريَّة كذلك. أي إنَّ ما لم يُجبَروا على تنفيذه لم يُنفِّذوه، وما أُجبرِوا على تنفيذه لم يكن مُرضياً لهم. بهذا المعنى، قد تكون هذه الأيَّام مجرَّد علامة وقفٍ خلال كتابة هذه الصفحة من صفحات الحاضر في كتاب التاريخ.

ما سيأتي لا معرفة لنا به. هو قراءاتٌ وتحليلات، تُضاف إلى خشيةٍ لازمة. أما لناحية فهم ما جرى منذ بدء محاولات الغزو البرّي لجنوب لبنان، أي فهم الرسالة الناريَّة للمقاومة، فهناك تباينٌ كبير، حتى لَيبدو أن الأبعدين فهموها أكثر من بعض الأقربين.

لكنَّ المؤكَّد أنَّ المعنيِّين المباشرِين بالأمر على طرفَي الحدود فهموا ما يجب عليهم فهمه: أهل الجنوب الذين توجَّهوا إلى بيوتهم أو أطلالها منذ اللحظات الأولى لسَرَيان وقف إطلاق النار، من دون أن تنال من عزيمتهم آلة الموت التي حرثت قراهم. ومستوطنو شمال فلسطين المحتلَّة بقيوا على خوفهم وظلُّوا في منازحهم مُتَهيِّبين العودة، رافضين أن يوضعوا مجدَّداً في مرمى صواريخ المقاومة وبين آثار قصفها ودمارها.

بعد العودة التي أثارت حفيظة الاحتلال وسُعار وزرائه الأشدِّ إجراماً، إلى درجة أنَّهم طالبوا «جيشهم» باعتقال من يعود إلى بعض قرى الحافَّة الأماميَّة للحدود، عثر العائدون على رسائل أخرى داخل منازلهم. رسائلُ مكتوبةٌ بالأقلام على أوراق دفاتر الأولاد المدرسيَّة، التي سيعود إليها هؤلاء الأولاد سريعاً ليتابعوا حياتهم الطبيعيَّة كما عاشوها منذ ما بعد التحرير.

كتب هذه الرسائل حُماة البيوت، وفيها يعتذرون عن استخدام هذه البيوت للأكل والمبيت من دون إذنٍ من أصحابها الغائبين، بينما كانوا يدافعون عن القرى ويضمنون عودة أهلها. في هذه الرسائل نقرأ مثلاً: «إلى أهالي المنزل… نطلب السماح منكم. استخدمنا المنزل للأكل والنوم». ونقرأ بالعاميَّة الأليفة في رسالةٍ أخرى: «سامحونا… أخدنا غراض من المنزل ونمنا فيه». إنَّ في هذا التصرُّف لطفاً وذوقاً، وحُسن تربيةٍ وطمأنة لأصحاب البيت، إذ كان يمكن لهؤلاء بعد عودتهم أن يظلُّوا مُشكِّكين بأنَّ من دخله هم جنود الاحتلال، وأن يعملوا على تطهيره بشتى الوسائل، كإشعال البخور وترديد الأدعية وتشغيل صوت الأذان والصلوات، وإن كان هناك في مقطع الفيديو الذي تمَّ تداوله بكثرة ما ينفي هذا الاحتمال.

هناك رسائلُ أكثر تحديداً، تحتوي على جردةٍ دقيقةٍ بما تمَّ أخذه، سواء أكان «4 سجائر كانت موجودة» مثلاً، أو كمية كبيرة من المواد المختلفة، بما فيها «شريط كهرباء فككناه من الستيريو» اضطروا إلى استعماله، من دون نسيان الإشارة إلى أنَّهم قرؤوا في كتب المكتبة، وهذا استخدامٌ من نوعٍ خاصٍّ ودالّ. كما أنَّ بعض المكتوب يُعطينا فكرةً عن الهدوء والثقة اللتين يعمل بهما هؤلاء الشبَّان حين لا يَغفَلون عن نظافتهم الشخصيَّة رغم احتمال الموت القريب، ولا يُغفِلون ذِكر أخذهم «بعض مسحوق الغسيل» أو «الشامبو»، مع التنويه إلى أنَّ بقاءهم كان «لبعض الوقت، ومن دون لمس أي شيء، أو العبث بأي شيء»، والتأكيد على أنَّ الباب المخلوع «كُسِر خلال غارة قويَّة».

فوق رسالةٍ أخرى مكتوبةٍ على كرتونة، وضع المقاومون «مبلغاً بسيطاً» وذلك «إبراءً للذمَّة»، بينما تمنَّى من لم يكن يحمل مالاً كافياً في رسالته «التواصل مع الإخوة في البلدة، للتعويض عن الخسائر والمواد المستخدمة». أما «الدم الموجود على الأرض، فهو دم أحد الجرحى، وقد اضطررنا إلى نقله إلى منزلكم. وقد استشهد في هذا المنزل المبارك»، وهذه رسالةٌ تعود إلى 19 تشرين الأول (أكتوبر) موقَّعة باسم «إخوة الشهيد كميل».

«العظمة مكوَّنةٌ دائماً من أشياء بسيطة»، يقول الروائي الهنغاري لاسلو كراسناهوركاي. نشعر بعظمة هؤلاء الشبَّان ونحن نقرأ كلماتهم البسيطة، التي تقع مباشرةً في القلب حيث منبعُها.

في مقطع الفيديو المُشار إليه أعلاه، ثمَّة حنانٌ أموميٌّ نحو شبَّانٍ أكسبهم حرصهم على البيت بنوَّتهم. حافظ المقاومون على نظافة المطبخ الذي استخدموه لإعداد طعامهم البسيط، وحرصوا على جلي ما استخدموه من أوعية وصحون. «مقشّرين بطاطا وعاملين أكل» تقول بتأثُّرٍ سيدة المنزل التي تصوِّر المقطع، وهي تردِّد كلازمةٍ: «باركولنا بيتنا الشباب».

كما أنَّهم تركوا البراد ملآناً بالطعام الذي جلبوه، ورتَّبوا السرير بعدما ناموا فيه، وتغطُّوا بالغطاء الذي سُرَّت السيدة لأنَّها لم تحمله معها في نزوحها، وإلَّا لأصبح أولئك الأولاد عُرضةً للبرد، فيما وضع آخرون فراشاً على أرضيَّة غرفة الجلوس، وذلك كلُّه قبل أن يتركوا رسالة شكرٍ وطلب مسامحة فوق موقد الغاز، أمام باب المدخل مباشرة.

وحدة الحال هذه بين المقاومين وأهلهم في كلِّ المناطق المُعرَّضة للتهديد، من يستطيع فصمها؟ هذا الانسجام هو كأحجار الأبنية القديمة، لن يزيدها الضغط إلَّا تلاحماً وتماسكاً. لم تنشأ المقاومة من أبناء الأرض إلَّا لمواجهة الاحتلال، ولن تُفيد المحاولات الجارية لعودة الاحتلال بنيَّة القضاء على المقاومة إلَّا في جعلها تزداد قوَّةً واتِّقاداً.

هذه الرسائل الكثيرة العدد ذخيرةٌ للعمر، ذكرى من هذه المعركة التي لم يحقِّق فيها المعتدي أهدافه، سيحفظها أصحاب البيوت في أكثر الأماكن حميميَّة داخل أرواحهم وبيوتهم، وسيورِّثونها من جيلٍ إلى جيل.

ساري موسى _ الاخبار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى