يُجمِع الخبراء في شؤون العدو على أنْ لا مجال لمقارنة تعامل كيان الاحتلال بمؤسساته السياسية والأمنية والعسكرية مع لبنان بتعامله مع الوضع في غزة والضفة الغربية. ويقدّمون دلائل كثيرة على هذا التقدير. الخبراء أغلبهم من المختصّين بالشأن الإسرائيلي، ويعيشون داخل الكيان، سواء أكانوا عرباً أم مستوطنين، وهم يعرضون الكثير من الدلائل على الاختلافات الجوهرية. لكنهم يُجمِعون أيضاً على أن واقع كيان الاحتلال اليوم يتميّز بوجود زعيم سياسي كبنيامين نتنياهو، يصعب تقدير خطواته بصورة عقلانية.
يمثّل العدوان المستمر على لبنان خطوة في مسار بدأه نتنياهو، مستنداً إلى تيار يميني له بعد انعزالي. وهو متمدّد في كل شرائح مجتمع الكيان. ولا يقتصر الأمر على مستوطنين لم يتحوّلوا بعد إلى الحياة المَدينية الكاملة (سكان المستوطنات حول غزة وفي الضفة وقرب لبنان)، بل هو تيار كبير جداً داخل الجيش، والخبراء يستدلّون على تجذّره على مستوى الكوادر الوسطى في الجيش من خلال طريقة عملهم في لبنان وغزة. فنحن أمام عدو مشبع بالكراهية، وجيش يمثّل قبيلة مهجوسة بعقدة التفوّق بالقوة، ولا ترى خلاصها بغير إبادة كل من حولها، لأنها تخاف من كل ما هو موجود حولها. وهي عصابة مسكونة بأساطير لا علاج لها في عالم السحر والشعوذة.
ما يفيدنا في لحظتنا الراهنة أن لا شيء يجبر العدو على وقف جرائمه، إلا إشعاره بأنه مضطر إلى وقف القتل. وهذا أمر لا يحصل إلا متى أدرك عجزه عن الاستمرار، أو إن قرّر الغرب سد أنابيب الحياة الخاصة به. وحتى اللحظة، لا يبدو أننا وصلنا إلى هذه النقطة. ثمة تجارب جديدة مع الحظ يقوم بها جيش الاحتلال في الميدان، وهي تجارب دامية وسيكون لها أثرها الكبير على مسار أي تفاوض خلال الفترة المقبلة، علماً أن الجهات الراغبة بوقف الحرب تفكر بطريقة لا تتناسب مع العقلية السائدة لدى العدو. وما يصل إلينا سياسياً وميدانياً، هو أن إسرائيل تريد استسلاماً واضحاً. وتريد لهذا الاستسلام أن يُترجم على شكل عمليات تجريد للسلاح، يتولاها اللبنانيون بأنفسهم، وهو مصدر سوء الفهم المركزي لدى الجانب الأميركي، ولدى جهات لبنانية أيضاً. ويعتقد هؤلاء بأن ضغطاً داخلياً تقوده جماعات معارضة لحزب الله، يمكنه أن يفرض تنازلاً لم يحصل كل أعداء المقاومة عليه تحت النار. لذا من المفيد إعادة رسم المشهد بطريقة واقعية:
أولاً، إن إسرائيل تعمل الآن على تنظيم سرديتها للحرب في لبنان وتحديد إطار للأهداف التي تريد تحقيقها. وهي انتهت خلال الساعات الـ 36 الماضية إلى موقف توجّب على العدو إعلانه، وهو أن الحرب هدفها إعادة سكان الشمال وإبعاد حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، مع توضيحات بأن الحرب لا تهدف إلى تدمير حزب الله أو تغيير الواقع السياسي في لبنان.
ثانياً، يبدو أن شيئاً من التبدّل طرأ على برنامج التعاون الأميركي – الإسرائيلي، وقد يراه البعض مناسباً لإسرائيل، لكنّ المؤكد أنه سيكون مناسباً للمصالح الأميركية. وحين يحصل التطابق فلن يغضب أحدهما، ولكن في حال حصول تصادم، فإن على إسرائيل تقديم التنازل. وسيكون من السذاجة الاعتقاد بأن البرامج الضخمة التي يضعها دونالد ترامب أمام إدارته الجديدة يمكن أن تخضع لابتزاز أحد، بمن في ذلك إسرائيل. وعلى حدّ تعبير دبلوماسي عربي في واشنطن، فإن المعادلة تقوم الآن على الشكل الآتي: على إسرائيل مواءمة أهدافها مع أهداف أميركا وليس العكس. وإذا كانت القواسم المشتركة بين الطرفين كبيرة جداً، فإنه من الواضح أن إبقاء الشرق الأوسط مشتعلاً، وتوسيع دائرة الحرب، ليسا في رأس أولويات ترامب.
ثالثاً، طلبت إسرائيل من الإدارتين الحالية والمقبلة منحها المزيد من الوقت لتحقيق مكاسب إضافية على الأرض لاستثمارها في المفاوضات. والمهم في هذه النقطة أن نفهم أن الكرة في ملعب لبنان، لجهة إدراك أن العدو لن يستطيع فرض تصوّره للحل من دون تحقيق إنجاز كامل على الأرض. وهو ما لم يحصل. وثمة اعتبارات كثيرة تحول دون ادّعاء العدو بأنه قادر على فرض شروطه. وبالتالي، فإنه من غير المنطقي أن يخرج في لبنان من يدعو إلى القبول بالشروط المقدّمة لوقف الحرب. فدعوة كهذه تغفل أن تحقيق الشروط الإسرائيلية يستهدف حرباً أهلية في لبنان، بديلة عن الحرب الإسرائيلية على لبنان.
رابعاً، ما يريده العدو من تشكيل لجنة رقابة دولية جديدة لضمان تنفيذ القرار 1701، هو أن يتولى الجيش اللبناني والقوات الدولية تحقيق ما لم يقدر على تحقيقه هو. والعدو يريد أن يقوم الجيش واليونيفل بحملة عسكرية مفتوحة، هدفها نزع سلاح المقاومين في كل المنطقة الواقعة جنوب الليطاني. ويرى ذلك في برنامج عمل مفتوح، يقوم على الدخول إلى منازل الناس وأرزاقهم ومصانعهم ومعاملهم ومدارسهم ومساجدهم، وأن يحصل ذلك بالقوة. وإذا كان مفهوماً أن يصرّ العدو على ذلك، فالخطير أن يخرج في لبنان من يجاريه في الأمر بحجة منع استمرار الحرب.
خامساً، التعامل مع طلبات إسرائيل، ولو حظيت بدعم أميركي، على أنها التزامات واجبة على السلطة اللبنانية وقواها العسكرية والأمنية، يعني أن في لبنان من لم يتعلم الدرس بعد، وأن هناك من هو مستعد للذهاب نحو مواجهة أهلية أكيدة، لأنه واهم من يعتقد بأن أبناء الجنوب، وخصوصاً المقاومين منهم، سيقبلون بأن تقوم جهات لبنانية، سياسية كانت أو عسكرية أو أمنية، بالدخول إلى منازلهم لنزع سلاحهم بحجة أن في ذلك خرقاً للقرار 1701، مع الإشارة إلى أن إسرائيل تريد هذه العملية وفق لائحة تقدّمها هي بصورة يومية. وهي تعلم أن القوات الدولية ستكون في خدمتها، لأن هذه القوات هي من سيتولى تقديم لائحة يومية إلى الجيش والقوى الأمنية اللبنانية تشمل منازل وممتلكات وأمكنة يجب «تطهيرها» من السلاح أو حتى التثبت من عدم وجود سلاح فيها. وهذه اللوائح، هي في حقيقة الأمر، جوهر برنامج العدو الذي لم يتحقّق بعد.
الحرب القائمة قاسية، وقاسية جداً، والتضحيات كبيرة وكبيرة جداً. لكن، بعد كل ما حصل، فإن فكرة الخضوع المباشر أو غير المباشر لرغبات العدو، فكرة غير مطابقة لمواصفات من قدّم الدماء والشهداء، وغير ممكنة التحقّق مهما حلم الحالمون!