في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان، تستمرّ وسائل الإعلام العربية، في استغلال التصريحات السياسية بهدف إثارة الفتنة بين اللبنانيين. تأتي هذه الممارسات في سياق ممنهج تسعى فيه تلك القنوات، كما اعتدنا في السنوات الماضية، إلى تقسيم المجتمع اللبناني وتأجيج الخلافات بين طوائفه المختلفة، وخصوصاً في لحظات الأزمات الوطنية الحادة في خضم الأزمات المتواصلة والعدوان الإسرائيلي على لبنان، وجد بعض الإعلام «فرصةً» لدفع اللبنانيين إلى التحرك ضد بعضهم. بدلاً من تعزيز الوحدة الوطنية وتوحيد الصفوف في مواجهة الاحتلال، تلجأ بعض المنصات الإعلامية إلى إثارة الفتنة وتأجيج الخلافات الداخلية. يُعدّ المشهد اللبناني اليوم مثالاً واضحاً على كيفية استغلال التصريحات السياسية لتعميم الانقسامات، ما يؤدي إلى تفكيك الجبهة الداخلية في لحظات تتطلب أقصى درجات التضامن.
أحدث الأمثلة على هذا التلاعب تجلّى في التعاطي الإعلامي مع تصريحات الوزير جبران باسيل، إذ استُخدمت مقتطفات من مقابلة أجريت معه على قناة «العربية» للإيحاء بموقف مناهض للمقاومة. رغم أن النص الكامل للمقابلة أظهر بوضوح أنّ باسيل لم يتراجع عن مواقفه السابقة، بل أكد على ضرورة مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ورفض أي مطالب بنزع سلاح المقاومة، إلا أن بعض الجهات الإعلامية استغلت تصريحاته لتضخيم الخلافات بين الأطراف المختلفة في لبنان. فقد أظهر باسيل في المقابلة شجاعة عبر تأكيده على أن أي مطلب بنزع سلاح «حزب الله» في ظل الحرب هو «خيانة». موقف يتماشى مع دعوة الوحدة في مواجهة التهديدات الخارجية. ومع ذلك، عمدت بعض القنوات الإعلامية إلى اجتزاء بعض مقاطع المقابلة وتقديمها بطرق توحي بأن باسيل يتخذ موقفاً عدائياً ضد المقاومة. هذه الأفعال توضح كيف يمكن للإعلام أن يصبح أداة لتفكيك الصف اللبناني وزرع الفتنة بين مكوناته.
لا يمكن فصل هذه الأحداث عن السياق الأوسع الذي يعيشه لبنان. فالأوضاع الاقتصادية المتردية والانقسامات السياسية المستشرية، نتيجة للسياسات الحكومية الفاشلة والفساد المستشري، تجعل المجتمع اللبناني أكثر عرضةً للاصطفافات الطائفية. في هذا الإطار، فإنّ وسائل الإعلام التي تروّج لأخبار مُختزلة ومُحرّفة تزيد من حدة هذه الانقسامات، متجاهلة تماماً الضرورة الملحة للتضامن في مواجهة الاحتلال.
لقد كانت سياسة الإعلام التحريضي سمةً بارزةً في الصراع اللبناني، حيث تسعى بعض القنوات إلى إعادة إنتاج الخطابات السلبية بين الطوائف، ما يؤدي إلى تفاقم التوترات ويضعف الجبهة الداخلية في مواجهة العدوان. يستغل العدو الإسرائيلي هذه الانقسامات ويجيرها لتحقيق أهدافه. لذا، فإن محاولة زرع الفتنة بين اللبنانيين عبر وسائل الإعلام تُعتبر جزءاً من إستراتيجيته الشاملة للسيطرة على لبنان وضرب مقاومته.
تاريخياً، شهد لبنان فترات من الفتن الأهلية نتيجة للتلاعب الإعلامي والاستغلال السياسي. اليوم، وعبر تجارب الماضي، الأحرى على اللبنانيين أن يكونوا حذرين من الوقوع في فخ الإعلام التحريضي، الذي يسعى إلى إشعال نار الفتنة التي خيّر رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو بينها وبين تحويل لبنان إلى غزة.
في ظل هذه الظروف، يصبح ضرورياً أن يتعالى اللبنانيون على الخلافات الضيّقة. أن يدركوا أن المعركة اليوم ليست فقط عسكرية في مواجهة العدوان الإسرائيلي، بل هي أيضاً معركة وعي وإعلام.
ولذلك، فإن التحلي بالوعي السياسي والاجتماعي أمرٌ حتمي لتفكيك هذه الخطابات المحرّضة، والوعي عند اختيار المنابر، وإدراك الدور في ترسيخ الوحدة الوطنية. إنّ التحدي الذي يواجه اللبنانيين اليوم يتجاوز المسائل العسكرية؛ فهو يتمثّل في مواجهة خطابات الفتنة التي تُستخدم للإضرار بالنسيج الاجتماعي. ما يتطلب الأمر تكاتفاً حقيقياً بين جميع مكونات المجتمع اللبناني لضمان عدم الانجرار وراء الانقسامات.
تاريخياً، شهد العالم عدداً من الأزمات الأهلية والصراعات الداخلية التي نشأت نتيجة للفتنة الإعلامية. في رواندا، أدت الحملات الإعلامية التحريضية التي قادتها وسائل الإعلام المتعاطفة مع الهوتو إلى تفشي الكراهية بين الهوتو والتوتسي، ما أسهم في اندلاع الإبادة الجماعية عام 1994، التي أسفرت عن مقتل حوالى 800 ألف شخص خلال فترة قصيرة لم تتجاوز 100 يوم. كانت محطة الإذاعة الشهيرة «ار تي إل» تروّج بشكل يومي لخطابات الكراهية، وكانت تدعو الهوتو إلى قتل التوتسي وتعتبرهم خطراً وجودياً. وقد أدى هذا التحريض إلى انقسام المجتمع الرواندي وإشعال فتيل العنف بشكل كارثي.
كما أنّ الحرب الأهلية في يوغوسلافيا (1991-2001) تُعدّ مثالاً آخر على دور الإعلام المحوري في نشر الفتنة. في هذه الفترة، بثّت وسائل الإعلام المحلية بشكل كبير الخطابات القومية والعنصرية، ما أدى إلى تفكك الدولة واندلاع صراعات دموية بين الصرب والكروات والمسلمين. كان الإعلام بمثابة سلاح يستخدم لتسريع النزاعات، إذ دأبت المحطات التلفزيونية على بثّ صور وأخبار مضلّلة تعزّز الشعور بالكراهية بين الجماعات المختلفة، ما أدى إلى مقتل مئات الآلاف من الأشخاص وتدمير مدن بأكملها.
وفي ميانمار، نشهد مثالاً مؤلماً آخر، إذ أسهمت وسائل الإعلام في نشر معلومات مضللة عن أقلية الروهينغا. هذه الحملات الإعلامية التي اتبعت نهج التحريض على الكراهية أدت إلى موجات من العنف والتهجير. وفي إثيوبيا، شهدت البلاد في السنوات الأخيرة تصاعداً في النزاعات العرقية، إذ تلعب وسائل الإعلام المحلية والدولية دوراً كبيراً في تأجيج النزاعات. واستُخدمت وسائل الإعلام لتقديم روايات متناقضة حول الأحداث، ما أسهم في تعزيز مشاعر الكراهية والريبة بين الجماعات العرقية المختلفة. كما تعرّض الصحافيون الذين حاولوا تقديم تغطية موضوعية للقضية لضغوط كبيرة، ما زاد من تعقيد المشهد الإعلامي في البلاد.
تُظهر هذه الأمثلة كيف يمكن للإعلام أن يصبح أداةً لنشر الفتنة وتحريض الجماهير، ما يؤدي إلى عواقب على الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي. الفتنة الإعلامية ليست مجرد كلمات تُقال، بل أفعال تترك أثراً عميقاً على المجتمعات، وتستدعي منّا الوعي والتفكير النقدي تجاه المحتوى الذي يُعرض.