“إن بلينكن يرى تدمير المجتمعات اليهودية في جنوب “إسرائيل” (مستوطنات غلاف غزة) بالعين نفسها التي يرى بها الهولوكوست”
صحيفة “جيروزاليم بوست” الاسرائيلية
في زيارته الأولى إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، عقب عملية “طوفان الأقصى” البطولية، وقف وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن بين يدي رئيس وزراء كيان العدو بنيامين نتنياهو متأثراً، وقال “لقد هرب جدي من اضطهاد اليهود في روسيا، ونجا زوج أمي من محارق النازية”. تابع ملتفتاً إلى نتنياهو “إنني أعرف الألم الذي تسببت فيه مذبحة حماس شخصياً، لا ليهود “إسرائيل” فحسب، بل لليهود في العالم كله”، مشيراً إلى أنه لا يقف أمامه وزيراً لخارجية أميركا فحسب، “بل بصفتي يهودياً”.
ثم توالت الزيارات وتوالت لتبلغ الاحدى عشر زيارة، على وقع إبادة جماعية غير مسبوقة بحق أهل قطاع غزة فاق عدد ضحاياها الأربعين ألفاً. زياراتٌ كرر فيها بلينكن التصريحات نفسها، وأعلن قبلها وخلالها عن الهدف نفسه “وقف اطلاق النار”، لكن كلها كلمات كانت تتبدد في الهواء عقب رحيله، مع تصاعد ملحوظ في وتيرة النار والقتل والوحشية الاسرائيلية. ما قاله بلينكن بداية المعركة هو الحقيقة الوحيدة: أنا أزور المنطقة بصفتي يهودياً. وبهذا شرّع الإبادة.
يهودية بلينكن طغت أو بالأحرى تناقضت على ما نظّر له في مقال سابق في “معهد بروكنغز” للسياسات قبل عام من تعيينه وزيراً للخارجية، خصوصاً لجهة أدائه الديبلوماسي خلال الحرب المستمرة منذ أكثر من عام بين كيان العدو والمقاومة الفلسطينية (واشنطن شريكة أساسية في إدارة هذه الحرب)، والتي توسعت إلى عدوان واسع على لبنان منذ شهر، إضافة إلى عمليات محدودة في العراق وسوريا واليمن.
الأخير تحدث في مقاله عن ما أسماه “السياسة الأميركية المثالية”، والتي اعتبر أن أحد أركانها الأساسية هي “أن تكون الدبلوماسية وقائية لمنع الأزمات من الحدوث أو تحجيمها قبل خروجها عن السيطرة”، وهو ما لم يحدث ابداً لجهة الأداء السياسي والدبلوماسي الأميركي المتمثل بشخص ببلينكن (رأس الدبلوماسية الأميركية خلال هذه الفترة) بدءاً من الحرب الروسية الأوكرانية وصولاً إلى الإبادة في غزة التي اتسعت إلى لبنان، بانتظار عدوان اسرائيلي مرتقب على ايران، والذي بحسب حجمه وطبيعته (كان هذا البند تحديداً أساس زيارة بلينكن الأخيرة إلى كيان الاحتلال وليس بحث وقف اطلاق النار كما أُشيع)، قد يأخذ المنطقة بأسرها إلى حرب شاملة مجهولة النتائج.
في المقال نفسه ايضاً، رأى بلينكن أن “المثالية تقتضي الاستعانة المؤسسات الدولية التي صُممت بعد الحرب العالمية الثانية”، لكننا وخلال هذه الحرب شهدنا النقيض، إذ كان هناك تواطؤاً واضحاً من الخارجية الأميركية (وهو ليس بجديد طبعاً) في فرض عقوبات على المؤسسات الدولية الداعمة للفلسطينيين، مثل الأونروا، أو حتى دعم العدو على الفرار من المسؤولية الدولية والقانونية أمام محكمة العدل الدولية أو مجلس الأمن الدولي، بل وإرسال تهديدات إلى المدعي العام للجنائية الدولية كريم خان لإصداره أوامر اعتقال بحق نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت. أين هي “مبادئ” بلينكن الدبلوماسية إذاً؟ إنها يهوديته مجدداً.
الجولة الأخيرة
ما الذي أتى بأنتوني إلى فلسطين المحتلة في 22 تشرين الأول/اكتوبر الحالي، أي قبل أسبوعين نظرياً من انتهاء مهمته كوزير خارجية لبلاده، ما الذي أتى به حقاً؟ يبدو من المضحك القول إنه سيوقف حرباً طالت وتعقدت بفعل نفاقه الدبلوماسي، إذ إنه كان يعلم في كل جولة له في المنطقة أن لعبة توزيع الأدوار بين دولته وكيان الاحتلال باتت مكشوفة، هو يتحدث عن قرب حدوث اتفاق يوقف الحرب والاحتلال يرتكب المزيد من الجرائم ويزداد تعنتاً. أكثر جولاته كذباً كانت في تموز/يوليو الماضي عند طرح ما سُمي “ورقة بايدن” التي حصّل موافقة من المقاومة عليها، ليرمي بها نتنياهو في القمامة ويكمل حربه مصعداً من وتيرة التدمير والقتل والاغتيالات (اغتيال رئيس المكتب السياسي للحركة اسماعيل هنية والقائد العسكري في حزب الله السيد فؤاد شكر فور عودة نتنياهو من واشنطن في تموز/يوليو الماضي)، وصولاً إلى العدوان الواسع على لبنان.
برع بلينكن طوال عام على تقديم نفسه حاملاً لورقة الحل والسلام في المنطقة، ليغادر بعدها سريعاً من “تل أبيب” بوجه حزين غاضب، متحدثاً عن عُقد لا تزال بحاجة إلى حل، وكان من المعلوم أن هذه العُقد ليست سوى رفض المقاومة الفلسطينية الاستسلام الكامل للعدو وهي الصامدة الباقية في الميدان، فلماذا تبيع العدو انجازات لم يحققها حتى اللحظة؟
كل ما في الأمر أنه الآن وبعد استشهاد رئيس حركة حماس في القطاع وخليفة هنية القائد يحيى السنوار في الميدان، وليس بإنجاز اسرائيلي، وعلى وقع سحق العزّل في شمال القطاع ومشروع التهجير، وفي ضوء “انجازات تكتيكية” حققها العدو من اغتيال قيادات بارزة في المقاومة الإسلامية في لبنان ومجزرة البايجر واللاسيلكي، فُتحت شهية بلينكن الدبلوماسية.
لكن فوقيته ويهوديته التي جاهر بها، حالت بينه وبين حقيقة المشهد، ليعلن عقب لقائه نتنياهو وقبل مغادرته الأراضي المحتلة إلى المملكة العربية السعودية، أن “حان الوقت كي تحوّل “إسرائيل” النجاح العسكري إلى إستراتيجي”، وأن “السنوار كان العائق الأول أمام مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة”، زاعماً أن “لدينا خطط واضحة بشأن المستقبل في غزة بعد الحرب”، أي حسب رؤيته الغير مستندة إلى وقائع، خروج المقاومة من الصورة المستقبلية للقطاع.
لقد فات “الصقر الليبرالي اللطيف، والسياسي المتردد”، كما تصفه أوساط الصحافة الأميركية، جانباً آخر من المشهد، وهو الأكثر تأثيراً.
فاته أن المقاومة في غزة ازدادت شراسة بعد استشهاد القائد السنوار، وأنه رغم كل الاجرام في الشمال لا تزال تقاتل وتصيب. ألم يصله خبر مقتل قائد لواء في جيش الاحتلال منذ أيام؟ فاته أن حماس أعلنت بعد السنوار أن لا شيء تغير فيما يتعلق بشروطها لاتمام أي اتفاق.
فاته أن جيش الاحتلال الذي قام بكل ما قام به في لبنان، لا يزال حزب الله قادراً على منعه من احتلال قرية حدودية واحدة، يكبده عشرات الإصابات يومياً، يضرب عمقه بكثافة واستمرار، ويصل إلى منزل رئيس حكومته.
كيف ستنتصر دبلوماسيتك ليهوديتك يا بلينكن؟ لا بأس من جولة أخيرة فاشلة.
لا بأس من خيبة، رسمت معالمها على وجهك كلمات الطالبة في جامعة جورجتاون الفلسطينية الأميركية نوران الحمدان في أيار/مايو 2022 في حفل التخرج، عندما قالت “العدالة للصحافية شيرين أبو عاقلة”، التي قتلها حلفاؤك بدم بارد وللمناسبة تحمل جنسية بلادك، ملوحةً بعلم بلدها، رافضة مصافحتك، والنظر في وجهك.