فور صدور المناهج التربوية عام 1997، بدأ العمل بتقليصها، لأن حجمها تعدّى عدد أيام التعليم المُزمع اعتماده. وعلى مر السنوات، كان يُعمل على تقليصها في وقت الأزمات. عام 2016، أُعيد العمل ببعض المحاور والفصول، وأوقف العمل ببعضها. ومع جائحة كورونا وتداعياتها (عام 2019)، جرى أيضاً تقليص للمناهج.
ومنذ ذلك الحين، نشهد كل عام، وأحياناً في توقيت غير ملائم، تقليصاً قسرياً لها، في بداية العام الدّراسي و/أو في منتصفه و/أو في آخره. يترافق هذا التقليص، عن غير قصد، مع تشويه واضح للمدى والتّتابع scope and sequence، الخاص بالأهداف التعليمية العامة والخاصة، والأهداف الأفقية والعَمودية. وكل ذلك يحدث لمناهج أصبحت بمعظمها، بعد 27 عاماً، بالية ومهترئة، لا تلبّي حاجات المتعلِّم وطموحاته، ولا تتماشى مع حاجات سوق العمل المتغيّرة.
وتزامناً مع ما يجري من تقليص وتشويه للمناهج، تفقد الامتحانات الرّسمية قيمتها وهويتها ووظيفتها سنة بعد أخرى، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه هذا العام.
فالشهادة الرسمية التي يُفترض أنها تقيس عند التلامذة مدى اكتسابهم لكفايات المناهج، وتكون جسر عبور للمرحلة الجامعية أو إلى سوق العمل، أصبحت شاهد زور، ولم تعد تعبّر عما كانت تعبّر عنه سابقاً.
وهذا هو العام الدراسي الخامس، بعد أزمة كورونا، الذي يحمل في طياته تراكمات من التبسيط للامتحانات الرسمية، ولا سيما في التوجيهات العامة للجان الفاحصة، وفي مستوى الأسئلة المطروحة، وفي تسهيل المراقبة، وأُضيفت هذا العام مروحة واسعة من الخيارات، حتى أصبح بإمكان التلميذ دراسة نحو نصف المنهج المقلّص، أي ما يقارب ربع المنهج الرسمي، حتى يضمن النجاح. وهذا ما جعل الامتحانات الرسمية لهذا العام، شكليّة بامتياز.
وبغضّ النظر عن نوعية التعديلات التي تضمّنها التوصيف الجديد، الذي صدر قبل أسبوع واحد من موعد الامتحانات، فإنّه لم يصل إلى الجميع، وقد كان مصدر إرباك وبلبلة عند معظم من وصلهم من التلامذة والمعلمين والمدارس.
مع الإشارة إلى أن أي تعديل يجب أن يحصل عليه التلامذة ضمن المهلة المعقولة، من معلّميهم في مدارسهم التي انتهى التعليم فيها منذ أكثر من شهر، ولا يجوز أن يكتشف التلامذة هذه التعديلات في الامتحان وحدهم.
أما التوصيف فهو عبارة عن وثيقة رسميّة تحدّد من خلالها الأطر العامة والمواصفات الدقيقة للامتحانات الرسمية.
في المنطق التربوي العام، تترافق مع إصدار أي توصيف جديد، نماذج جديدة للامتحانات الرسمية تتماشى مع هذا التوصيف. يتم من بعده إعلام المدارس بالطرق الرسمية، ويتم تدريب المعلمين، ضمن المهلة المحدّدة (على الأقل مدة شهرين قبل نهاية العام الدراسي)، ليقوموا بدورهم بتدريب التلامذة على الأنماط الجديدة.
وفي الحالات الطبيعية، يجب أن يصدر التوصيف وتبعاته في بداية العام الدّراسي. وما حدث هذا العام، كان بعيداً كل البعد عن الأداء التربوي، رغم المحاولات لتدارك الموضوع.
الوضع الأمني في الجنوب اللبناني هو أمر استثنائي يستدعي التوقف عنده طبعاً، لكنه لا يبرّر التقليص الذي حصل، ولا يبرر صدور توصيف جديد للامتحانات الرسمية.
فالوضع الأمني في الجنوب كان مع بداية العام الدراسي في تشرين الأوّل 2023، وليس حصيلة البارحة. وكل ما خلّفته وتخلّفه الحرب من قصف ودمار وأصوات ومجازر ونزوح وهجرة داخليّة وأجواء رعب وخوف وعدم القدرة على التركيز وغيرها، إضافة إلى التفاوت في عدد أيام التعليم بين بعض مدارس الجنوب ومدارس لبنان، والتفاوت في عملية التعليم وعملية التعلّم… كلّ ذلك لم يكن غير متوقّع.
لذا كان أجدى بالمسؤولين التربويين استدراك الوضع منذ البداية، وليس في اللحظة الأخيرة، واتخاذ القرار التربوي المناسب والعادل، ضمن المهل المنطقية. وهنا لا أتكلّم فقط على التوصيف الجديد، ولكن على كيفية التعاطي مع الموضوع بشكل عام منذ البداية، مع التّأكيد على ضرورة إجراء الامتحانات الرسمية.
التربية في خطر… المعلمون محبطون يبحثون عن لقمة العيش. الفاقد التعلّمي يتراكم ويعاني منه معظم التلامذة. الأقساط المدرسية مرتفعة وإدارات المدارس تعاني من عجز في الموازنات… نحن أمام عام دراسي رمادي على الأبواب.
المناهج الوطنية، من حيث الشكل والمضمون، أصبحت خارجة عن العصر، وما يتم إنجازه حالياً في مشروع تطوير المناهج هو نسخة مطوّرة لمناهج 1997. في المقابل، المناهج الأجنبية تغزو المدارس الخاصة وبدأت تدخل على المدارس الرّسميّة، حاملة معها قيماً وأفكاراً تتعارض في جزء منها مع ثقافتنا ومجتمعنا، وهي بعيدة كل البعد عن مواضيع الثقافة المحلية.
أضف إلى ذلك، المشاريع والبرامج والأجندات، من منظمات محلية وعالمية، التي تدخل إلى المدارس من دون تخطيط مسبق أو رؤية متكاملة، بواسطة الهبات أو القروض أو التجارب…
وأخيراً، هذا كلّه يحدث في مؤسسات وإدارات تربوية رسمية تفتقد في العديد من أقسامها ومكاتبها إلى ملاك إداري وفنّي كُفُؤ، وإلى حوكمة رشيدة لإدارة التربية في وقت الأزمات، وإلى أجهزة رقابة لمحاربة الفساد.
إذا كانت التربية في خطر، هذا يعني أن مستقبل الوطن في خطر!