كتبت صحيفة “الأخبار”: ليس امراً عادياً ان يبقى اسم قائد كبير عرفه عشرات الآلاف من المقاتلين غير معروف لغالبيتهم حتى لحظة استشهاده. طالب عبد الله (ابو طالب) واحد من ابناء الجيل الاول، بدأ مسيرته مقاتلاً بخبرات محدودة، وتلقّى «أصول الميدان» مع مجموعة تعلّمت الكثير في مسيرة أمضى فيها كل حياته (من السادسة عشرة حتى استشهاده)، مقاتلاً ومخططاً ومدرباً ومعلماً وقائداً. لم يكن في حياته حدث خارج عالم المقاومة وميادينها. هو واحد من حفنة حفظت ذاكرة اربعة عقود من العمل المقاوم بكل اشكاله، من استخدام مسدس فردي، الى ادارة شبكة من احدث الاسلحة والصواريخ، وتعلمت الجمع بين التفكير الامني والعمل العسكري، وتمكنت من قراءة العدو وحفظه عن ظهر قلب.
ابو طالب الذي قاد نصف الجبهة اللبنانية المفتوحة مع العدو منذ عملية طوفان الاقصى، لم يكن لحظة بعيداً عن الميدان، وكان ممن يعرفون بأن كل مهمة في هذه المعركة هي عملية استشهادية، ولم يغب عن باله لحظة احتمال القتل على يد العدو ، اغتيالاً او قصفاً او قتلاً في نزال. وهو واحد ممن فرضت ظروف المقاومة عليهم الانتقال بين ميادين كثيرة في مسيرة بدأها منتصف ثمانينات القرن الماضي، قادته من بيروت المدينة الى قرى الجنوب المهملة، ثم الى اوروبا نصيرا للمقهورين في البوسنة قبل العودة الى مطاردة العدو حتى طرده من لبنان، وقيادة معركة منعه من العودة عام 2006، ومدافعا عن ظهر المقاومة وعمقها في الحرب ضد التكفيريين على حدود سوريا، ثم العودة الى المكان الاقرب الى قلبه وعقله، حيث تابع مسيرةً قادته الى استشهاد يحسده عليه جلّ رفاقه الاحياء
بعد دقائق من إسقاط المقاومة مُسيّرة «هيرميس 900»، أوّل من أمس، كان الحاج أبو طالب أوّل المتصلين بالمسؤولين عن عملية الإسقاط للتهنئة والسؤال عن طبيعة العمل. ورغم أن العملية تقع خارج نطاق مسؤوليته، إلا أنه «مجبول بالدقة والاستفسار عن التفاصيل»، كما يقول رفاق درب القائد الشهيد طالب سامي عبدالله .
منذ حضر إلى «محور صدّيقين» في جنوب لبنان عام 1987، برزت استثنائيّته. كان المحور قد تعرّض لضربة قاسية بعد فقدان المقاومة عدداً من قادتها على رأسهم القائد رضا حريري.
لكن «أبو طالب» ورفاقه سرعان ما أعادوا للمحور زخمه، ففُعّلت الدوريات والكمائن وزرع العبوات، وتحوّل محور صدّيقين من «مصدر قلق» على قشرة الحزام الأمني إلى مصدر خطر تنطلق منه العمليات إلى داخل الشريط.
بعد اغتيال الأمين العام السابق لحزب الله السيد عباس الموسوي، عام 1992، وانتخاب السيد حسن نصرالله أميناً عاماً للحزب، دخلت المقاومة ورشة هيكلة، شكّلت المحاور فيها عصب العمل المقاوم. تسلم أبو طالب محور صدّيقين. وخلال أيام قليلة، قرّر ورفاقه رفع مستوى التحدّي، وزادوا من جرعة «الإبداع» وصولاً إلى داخل فلسطين المحتلة، فخطّط لـ«عملية بحرية»، بقيت طيّ أسرار المقاومة.
انتدبته قيادة المقاومة مع عدد من رفاقه لمهمّة في البوسنة. ومع أن أفراد المجموعة كانوا قد خضعوا لدورة «القوة الخاصة» التي لم يكن قد خضع لها، إلا أن القرار كان أن يكون معهم نظراً إلى مهاراته، وشخصيّته التي تجعله يتكيّف مع المهمة قبل غيره. وهو، بالفعل، جذب في الأيام الأولى انتباه المتدرّبين في مهارات استخدام المسدس والأسلحة الخفيفة، فضلاً عن قدرته على الاندماج مع المجموعات التي كانت في طور التشكّل. بعد العودة إلى لبنان، أصبح أساسياً في «القوة الخاصة» التي أصبحت تشكيلاً رسمياً، وأوكلت إليها مهام اقتحام المواقع، ولا تكاد تخلو عملية اقتحام من مشاركته فيها بشكل أو بآخر.
جندي التحرير
مع دخول عام 2000، بدأت تلوح في الأفق بشائر اندحار إسرائيلي. كانت العمليات قد تكثّفت، وقُتل قائد قوات الاحتلال في الجنوب إيرز غيرزشتاين. قرّر «المعاون الجهادي» آنذاك، الحاج عماد مغنية، تسليم أبو طالب محور بنت جبيل. وبعد أسابيع، قُتل العميل عقل هاشم، الرجل الأول في «جيش لحد».. بعد أسابيع، أخلى الاحتلال موقع بيت ياحون، وأمرت قيادة المقاومة بنسفه، فتولّى هو المهمّة. كانت تلك مقدّمةً لما سيحصل في أيار من ذلك العام. وعندما وُضعت الخطط للقادم من الأيام، وكيف ستندحر إسرائيل تحت النار، حفظ أبو طالب المهمة، ولم يكن ينتظر سوى لحظة التنفيذ.
مع المسير العفوي للأهالي في 21 أيار 2000 عند بعض بوابات القرى المحتلة، لم تفاجأ المقاومة، ووضعت سريعاً الخطط موضع التنفيذ. كان محور بنت جبيل في قلب ما يحصل نظراً إلى حساسية المواقع فيه، ولا سيما «مركز الـ17»، عند مدخل المدينة. ركّز أبو طالب، حينها، على تنظيم حركة دخول الأهالي الى القرى، ورفع الجهوزية للردّ على أي اعتداء،، وعدم وقوع عمليات ثأر من العملاء، ومواكبة التحضيرات لاحتفال النصر الذي سيقام بعد أيام في المدينة ويلقي فيه الأمين العام لحزب الله خطاب «بيت العنكبوت».
أيام بعد التحرير، دخلت المقاومة ورشة جديدة، مع قناعة قيادة المقاومة بأن إسرائيل لن تسكت عن الهزيمة وستعود لشن حرب جديدة. كان حزب الله قد أصبح على الشريط الحدودي مع فلسطين المحتلة مباشرة، واندلعت «انتفاضة الأقصى». طرح الحاج عماد مغنية سؤاله المركزي حينها: كيف سنواجه إسرائيل وندافع عن لبنان؟
بدأ الجسم العسكري لحزب الله التحضير دفاعياً، وكانت بنت جبيل في قلب هذا الدفاع، ما ألقى عبئاً كبيراً على كاهل المحور الذي أدخله أبو طالب في ورشة من نوع آخر: عزّز التموضع على الحافة الأمامية، وتابع كل تفاصيل الهيكلة والتنظيم، وانتقى كوادره، وبقي كل الوقت في الميدان، درس تفاصيله، وحفظ الجغرافيا بدقة، وبدفتر لم يفارقه، كان يدوّن الأفكار بعد كل جولة، ويجيب كل من يسأله: «بدنا نشدّ الهمة جاي الحرب».
صبيحة 12 تموز 2006، بعد دقائق من عملية الأسر قام بجولة اتصالات لتفقد الجهوزية، وعاين ميدانياً كل ما تم تجهيزه خلال السنوات الماضية، سائلاً عن أدق التفاصيل بما فيها عدد الطلقات في أسلحة المقاومين. في نهاية ذلك النهار، أسرّ إلى من كان معه بأن العدو سيرتكب حماقة يندم عليها.
في الأيام الأولى للعدوان، بقي في بنت جبيل يدير مواجهات قرى الحافة مع فلسطين، ومع اشتداد المعارك في مربع التحرير (مارون الرأس، بنت جبيل، عيناثا، عيترون) تعهّد بأن العدو لن يدخل المدينة. ورغم سقوط عدد من رفاق دربه المقربين إلا أنه لم ينصرف عن المهمة، كان يعلم أن رفع الراية في الملعب سيشكل نصراً معنوياً للاحتلال، وكان همه الأكبر «ما رح تنزل كلمة السيد حسن عالأرض».
نقل غرفة العمليات إلى بلدة أخرى في القضاء، لكن العدو لاحقه بغارات عنيفة، لكنه لم يخل الموقع ولم يتوقف عن جولاته الميدانية لتفقد نقاط الاشتباك. في خضمّ المواجهات، اتصل به الحاج عماد مطمئناً فلخّص له المشهد، واقترح عليه أفكاراً تتعلق ببعض التكتيكات التي يستحيل نظرياً تنفيذها. ولثقة الحاج عماد به ترك القرار له، فكانت هذه التكتيكات هي الأساس في إنزال خسائر في القوات التي حاولت التقدم إلى الملعب، ما أدى الى انسحابها بعد قتل وجرح عدد كبير من ضباطها وجنودها.
من المحور إلى «نصر»
مع انتهاء العدوان في 14 آب 2006، بدأت الورشة الكبرى التي نقلت حزب الله إلى مستوى مختلف. أُعيدت هيكلة الجسم العسكري بشكل جذري، وانتقلت عملية البناء والتطوير والهيكلة من بناء محور إلى بناء منطقة عمليات، وأصبحت لدى المقاومة مناطق عسكرية تقسّمت بين منطقة نصر، ومنطقة بدر، ومنطقة عزيز، وتولّى هو مهام نائب مسؤول منطقة نصر، قبل أن يتولى مسؤوليتها منتصف عام 2016.
رغم كل التحديات التي عصفت بالمنطقة بعد عام 2011، بقي أبو طالب ينظر تجاه فلسطين المحتلة، ضاعف الجهد وكثّف من تطوير القدرات البشرية والعسكرية، وعند كل استحقاق كانت منطقة نصر هي التي تهدد الاحتلال وتوقفه على «إجر ونص»، إذ تولت عمليات الردود على كل عدوان من اغتيال مجموعة القنيطرة عام 2015 إلى عملية أفيفيم 2019 وصولاً إلى عملية شويا عام 2021 وليس انتهاء برفع الجهوزية عند تهديد حزب الله بالحرب في حال لم يحصل الترسيم البحري عام 2022.
بين كل ذلك تضاعف الحضور الميداني للحاج أبو طالب أكثر من كل سنوات خدمته السابقة، وربما لم يمر يوم من دون أن يتفقد الشريط الحدودي ويعمّق معرفته بكل تفاصيل الاحتلال من التشكيلات إلى القدرات إلى المواقع وتجهيزاتها.
صبيحة الثامن من تشرين الأول 2023 جاء أمر الأمين العام لحزب الله بفتح الجبهة، فتولى أبو طالب المهمة شخصياً. كان واضحاً لديه بأن الأمور لن تقف عند هذا النسق، فقسّم ساعات يومه بين جولات تفقدية على امتداد نطاقه الجغرافي، واتصالات مكثّفة يتابع فيها تفاصيل كل العمليات ويتفقد كل من شارك من التخطيط إلى التنفيذ ويحدّد أعمال اليوم التالي.
سكنت فلسطين وجدانه، وحضرت على امتداد عمله، ولا سيما في ذروة التنسيق بين حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية إبان انتفاضة الأقصى. وكان حاضراً في زيارات الكوادر والوفود التي نظّم لها الحاج عماد مغنية جولات ميدانية، مساعداً وناقلاً للتجربة. ومع حلول عام 2022، كان شريكاً في برنامج عمل مشترك بين المقاومة في لبنان ومجموعات تابعة لكتائب عز الدين القسام وسرايا القدس، وقد عملت بعض هذه المجموعات ضمن نطاق مسؤوليته في الأسابيع التالية، بعدما افتتحت مجموعة من الجهاد الإسلامي في الثامن من تشرين الأول العمليات بتسلل مجموعة منها إلى داخل فلسطين المحتلة. ومع انطلاقة الطوفان وفتح جبهة الإسناد بلغ التنسيق والعمل الذروة وكان يتابع شخصياً الوضع مع قادة المقاومة الفلسطينية.