كتبت صحيفة “الأخبار”: السخونة الواضحة على الجبهة اللبنانية مع قوات الاحتلال لها بعدها المهني والميداني الخاص. هذا لا يعني أنها تقع خارج السياق السياسي للمرحلة الصعبة من البحث حول مستقبل الحرب على غزة.
لكنها تعكس في جانب أساسي منها نتيجة لجولة جديدة من المواجهة العسكرية المستندة إلى جهد استخباراتي يحتاج بدوره إلى ظروف وعناصر ليس من السهل توفّرها تحت النار.
خلال ثلاثة أشهر من المواجهة، أطلقت المقاومة في لبنان أكبر عملية تكيّف مع الوقائع الجديدة. خططها السابقة لـ«طوفان الأقصى» لم تشتمل على مواجهة كالتي تدور الآن، وكانت الجهوزية النوعية لوحدات المقاومة العسكرية تنطلق من خطتين، واحدة دفاعية لها معطياتها في ظل احتمال إقدام العدو على شن حرب على لبنان، وثانية هجومية تقوم على احتمال أن تبدأ المقاومة الحرب ضد العدو، سواء أكان رداً على اعتداء ما أم حتى من دونه. وفي الحالتين، كانت برامج التدريب تقوم على أسس مختلفة.
من لم يفهموا بعد أن المقاومة في لبنان فوجئت بعملية «طوفان الأقصى»، ربما تساعدهم الوقائع الميدانية على فهم الأمر.
ومرة جديدة، لم يصب سوء المقاومة لأن حماس أطلقت عملية نوعية من دون تشاور أو تفاهم مسبق، لا بل سرعان ما لمست فوائد ما قامت به المقاومة الفلسطينية. فعلى مدى الفترة السابقة، أُتيح لحزب الله اكتساب تجربة غير مسبوقة، لم يكن في الإمكان التخطيط لها في سياق الاستعداد لمواجهة أوسع أو أكثر شمولية مع العدو.
في الخطب العلنية كما في الجلسات المغلقة، يؤكد حزب الله أنه لا يخطط لحرب شاملة أو مواجهة من دون ضوابط مع العدو. ويشدّد، من خلال مواقفه السياسية، والأهم من خلال برنامج عملياته العسكرية، أنه يقود جبهة إسناد للمقاومة في غزة، ويوفر كل ما تتطلبه جبهة الإسناد.
وهي مهمة تجري وسط قواعد أكثر خصوصية، تستهدف أساساً تحييد المدنيين اللبنانيين إلى أبعد الحدود، وتضييق رقعة الاشتباك العسكري بما يقلّص حجم الضرر عليهم. وقد نجح الحزب، خلال ستة أشهر ونصف شهر، في قيادة عمل عسكري نوعي يزعج العدو ويربكه، فيما تمضي بقية البلاد في حياتها اليومية.
التكيّف الذي أنجزه الحزب تمثّل في المرحلة الأولى بإعادة نشر مجموعات المقاومة في الجبهة الأمامية بطريقة تحاكي بصورة عملانية المناخ الحربي الواسع القائم في هذه الرقعة، أي ما يؤمّن وصول المجموعات إلى نقاط الاستطلاع وتحديد الأهداف وفحصها، ثم تمكين المقاتلين من تنفيذ المهام التي تحتاج إلى قواعد عمل لا تشبه العمليات الفدائية التقليدية التي يعرفها الناس على قاعدة «اضرب واهرب».
ذلك أن المتطلبات اللوجستية للعمليات، وطريقة التنفيذ، تحتاج إلى أسلحة من نوع مختلف عن تلك التي اعتاد الناس مشاهدتها.
كما أن هذا النوع من المواجهة يحرم المقاومة من الكمائن التقليدية التي تحتاج اإى نصب شرك متفجّر على طريق تسلكه آلية أو مجموعة مشاة. على العكس من ذلك، فإن المقاومة في المواجهة الحالية تقوم على مبدأ الهجوم المتواصل. وحصل خلال مرة أو اثنتين أن حاول العدو إرسال قوات في مهام استطلاع، فجرى التصدي لها من خلال شرك تفجيري دفاعي. لكنّ الغالبية الساحقة من عمليات المقاومة ذات طابع هجومي، حتى ولو كانت تستهدف نقاطاً ثابتة لقوات الاحتلال في مواقع أو مراكز أو بنى مدنية يستخدمها جنود الاحتلال.
والدفاع السلبي الذي يعتمده المقاومون في مواجهة العدو، احتاج إلى آليات عمل جديدة، في مواجهة التطور التقني الهائل في سلاح الاستطلاع والتعقّب من قبل جيش الاحتلال.
وقد أدى تعطيل غالبية أجهزة التجسس الثابتة إلى ضرر كبير في حركة العدو، لكن سلاح الجو المُسيّر المتطور جداً لدى قوات الاحتلال، والمبني على «داتا» معلومات هائلة تمّ جمعها خلال 17 عاماً، سمح لقوات الاحتلال بفرض قواعد عمل جديدة على عناصر المقاومة، سواء لناحية مواقع الانطلاق أو التثبيت أو طريقة الوصول إلى نقطة العمل وآلية التنفيذ والابتعاد عن ردة الفعل السريعة لأسلحة العدو.
هذه العملية التي تشمل الدفاع السلبي ومن ثم العمل الهجومي، مرّت بفترات طويلة قبل أن تتحول إلى قاعدة فعّالة في عمل المقاومة، خصوصاً بعدما فرضت عملياتها وقائع ميدانية مختلفة على جيش الاحتلال، فاضطرته لإخلاء غالبية مواقعه، ولانتشار مع برنامج دفاع سلبي جعل الجنود لا يخرجون من نقاط معينة لأيام، وحدّ من حركة التنقل بين المواقع، وجعل اجتماعات ميدانية كثيرة لقوات الاحتلال تحصل في مناطق مفتوحة، ما مكّن المقاومة من استخدام وسائل رصد خاصة، بعضها معلوم وبعضها سيبقى غير معلوم إلى أمد، واستعادة زمام المبادرة على صعيد جمع المعلومات حول حركة قوات الاحتلال، قبل أن يُترك للقيادة الميدانية اختيار الهدف الأفضل، وتحديد نوعية السلاح الأنسب، واختيار المقاومين القادرين على تحقيق النتيجة المرجوّة. ولم يحصل سابقاً أن قامت المقاومة بمغامرات على حساب حياة مقاتليها، لكنها تحمّلت وزر العمليات الخطيرة التي كان لا بد من تنفيذها ولو كانت المخاطر مرتفعة، وهو ما يبرز في حجم التضحيات الكبيرة التي قدّمتها منذ 8 تشرين الأول الماضي.
في الآونة الأخيرة، بدا أن المقاومة وجدت علاجاً بقي بعيداً عن الإعلام لأحد التحديات المهمة في هذه المواجهة، والمتمثّل بالمُسيّرات الأكثر خطورة في منظومات طيران العدو.
وقد نجح «العلاج» الجديد في إسقاط ثلاث مُسيّرات نوعية، وفي إجبار سلاح جو العدو على الابتعاد عن الأجواء اللبنانية لوقت طويل. كما طوّر الحزب في أسلحته المضادة للدروع، ما مكّنه من تخصيص كل هدف بما يناسبه من الأسلحة المضادة للأفراد أو الآليات، وصولاً إلى تلك المخصّصة للتحصينات. وباتت المقاومة قادرة بصاروخ واحد على إخراج آلية من الخدمة نهائياً، أو تدمير منشأة عسكرية أو مدنية يستخدمها الجيش، وتعريض أي مجموعة جنود للعدو للموت أو الإصابة.
وهذه العمليات ما كانت لتتم لولا استعادة المقاومة السيطرة الكاملة على المشهد الميداني المباشر، أي القدرة على الإحاطة الاستخباراتية بحركة العدو على طول الحافة، وفي العمق حيث تتمركز قيادات القرار الميداني والأمني. وهي إحاطة جعلت المقاومة تدير بعناية استخدام سلاح المُسيّرات الانتحارية (الانقضاضية) التي تحوّلت في الفترة الأخيرة إلى الصياد القاتل، حيث تصعب نجاة من تصيب مكان وجوده، سواء في خيمة أو مبنى أو شقة أو آلية. وهي عملية تتطلب عملاً أمنياً – تقنياً يسمح للمُسيّرة بالانطلاق من نقطة مناسبة والوصول اإى الهدف بطريقة تمنع تفعيل منظومات الدفاع الجوي بسرعة لتعطيل العملية برمّتها.
والحديث هنا يدور عن ثوان في بعض الحالات، كما يستفيد المقاومون من خبرة على إدارة حركة المُسيّرات ضمن وقائع الجغرافيا الحدودية بين لبنان وفلسطين، بما يعيق مهمة أنظمة الرادارات الإسرائيلية، علماً أن المقاومة باتت قادرة على توفير عناصر الإلهاء للقبة الحديدية، وهو ما يضطر جيش الاحتلال للدفع بالطيران الحربي لملاحقة المُسيّرات.
وفي هذه الحالة، تبرز أهمية الوقت القصير جداً، بين انطلاق المُسيّرة والوصول إلى هدفها.
تعمل المقاومة استناداً إلى واقع أن استعداد العدو للجبهة الشمالية لم يكن عادياً. وتمكن هنا الإشارة إلى التصريحات الأخيرة للرئيس السابق لأركان جيش الاحتلال أفيف كوخافي خلال لقاء مع يهود أميركيين، إذ قال ما حرفيته: «الجيش الإسرائيلي لم يعتبر غزة تهديداً وجودياً. كانت الاستراتيجية على الأرض تقضي بالتركيز على إيران والساحة الشمالية»، مضيفاً: «من الصعب التصديق أنه من خلال القنوات الدبلوماسية سنحقق الوضع المنشود في الشمال والخيار الآخر هو عملية عسكرية».