تتقاطع التقارير والمقالات الأميركية والإسرائيلية التي تتناول خيارات الرد الإيراني على استهداف القنصلية الإيرانية على أوتوستراد المزة في دمشق، والمحاذية للسفارة الإيرانية مباشرةً، في ثلاثة مسارب:
أ – تجنب الرد مباشرة، و”توكيل” تلك المهمة إلى حلفاء إيران في المنطقة، على أن يطال الرد إما الكيان الصهيوني فقط، أو القواعد والمصالح الأميركية في المنطقة أيضاً.
ب – زيادة تخصيب اليورانيوم إلى مستوى 90% فقط، أو “إعادة إحياء العمل” على تصميم قنبلة نووية فعلية أيضاً.
جـ – استهداف المصالح الإسرائيلية في الخارج، عن طريق “تفجير سفارة إسرائيلية ما”، نقلاً عن إليوت إبرامز، أحد صقور المحافظين الجدد واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، بحسب تقرير لوكالة “رويترز” في 3/4/2024.
أما تجنب الرد المباشر، بحسب وجهة النظر المعادية تلك، فلأن إيران سعت منذ نهاية الحرب العراقية-الإيرانية إلى تجنب خوض أي حروب مباشرة خارج حدودها، ولأنها تدرك أن ميزان القوى بينها وبين الطرف الأميركي-الصهيوني ليس في مصلحتها. لذلك، ترى تلك التقارير والمقالات بأن الرد، حتى لو أتى من طريق حزب الله في لبنان على الكيان الصهيوني مباشرةً، فإنه سيكون محدود الطابع، وإلا فإنه سيفتح باب حربٍ إقليميةٍ كبرى لن تبقى إيران بمنأى عن نيرانها.
أما زيادة تخصيب اليورانيوم إلى نسبة 90%، أو السعي لبناء قنبلة نووية، أو كلاهما، فسوف تستتبعه ضربة نووية مؤكدة لإيران، بحسب المصادر ذاتها. وبناءً عليه، فإن إيران ستكتفي بضربة شكلية تحفظ ماء وجهها أمام رأيها العام وحلفائها في المنطقة، لأن تثبيت قدرتها على الردع سوف يضبطه حرصها الشديد على عدم الانزلاق إلى حربٍ مباشرة ومفتوحة مع الطرف الأميركي-الصهيوني، كما أظهرت العقود الأخيرة.
ومن البديهي في ما سبق، وبعض ما سيأتي، أن نقل نبض الإعلام المعادي لا يعني تبني ما ورد فيه، وإنما يجري إيراده كخلفية لفهم المنطق الاستراتيجي الذي يحكم قرار استهداف إيران وحرس الثورة في سوريا وفي إيران ذاتها ضمن منطق “اعرف عدوك”.
وبعد مراجعة طيفٍ واسعٍ من التقارير والمقالات المعادية التي تتناول خيارات إيران في الرد على استهداف قنصليتها في دمشق، وسلسلة اغتيالات قادة كبار في حرس الثورة، وجدتُ أن النَفَس العام لتلك المواد مطمئنٌ إلى أن الرد الإيراني لن يكون شرساً أو كاسحاً، كما وجدت أن الخطاب المناهض للمقاومة ومحورها باللغة العربية يُنسخ من سطور تلك المواد نسخاً، لكنّ تلك النقطة الأخيرة آخر همنا حالياً.
وإذا كان المنطق الإيراني يقوم عموماً على عدم الانجرار وراء الانفعال، وعلى اتخاذ القرارات بهدوءٍ وروية وبأفق طويل المدى، وعلى القتال خارج الأسوار، فإن المنطق الآخر يراهن على ذلك بالضبط كي يصعّد خطواته ضد إيران بصورةٍ تردعها وتسقطها أمام جمهورها الإيراني وغير الإيراني، أو، على الطرف النقيض، بصورةٍ تفقدها أعصابها وتزجّها في مواجهة تقليدية ونووية غير متكافئة مع الطرف الأميركي-الصهيوني.
قصور الاعتقاد الأميركي والصهيوني بأن إيران لن ترد بقوة على استهدافها
في تقريرٍ بعنوان “إيران تدرس بعناية الرد على الهجوم الإسرائيلي في دمشق”، في 5/4/2024، يركز “مركز ستِمسون” Stimson Center الأميركي المعروف مثلاً على ما سمّاه معضلة إيران في إيجاد نقطة توازنية توفّق بين حاجتها لتثبيت مبدأ الردع الفعال، في مواجهة الهجمات المتكررة عليها، وبين اعتبار تجنب الانجرار إلى حربٍ شاملة، مشيراً إلى السوابق التالية:
أ – الهجوم على القنصلية الإيرانية في مزار شريف في أفغانستان في 8/8/1998، بعد سيطرة طالبان على المدينة، الأمر الذي أودى بحياة 11 دبلوماسياً إيرانياً، إضافةً إلى صحافي إيراني واحد، وبعد حشد القوات الإيرانية على الحدود، وموافقة المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران، والرئيس الأسبق خاتمي، المعتدل، على شن هجوم كاسح، تدخّل الإمام خامنئي وأوقفه. (ولا يذكر التقرير ماذا حدث لطالبان بعدها.)
ب – اغتيال قائد فيلق القدس الشهيد قاسم سليماني بداية عام 2020 في بغداد، والرد الذي تلاه، والذي اقتصر على قصف قاعدة عين الأسد غربي العراق، بحسب تقرير “مركز ستِمسون”، مع إخطار الولايات المتحدة مسبقاً بالهجوم، الأمر الذي قلل الخسائر الأميركية، مع تثبيت مبدأ الردع في آنٍ واحد.
يراهن تقرير “مركز ستِمسون” أن يتخذ الرد الإيراني المنحى ذاته إذاً، وهو منظورٌ ضيقٌ جداً في تقييم المشهد الإقليمي، لا يأخذ في الاعتبار التحوّلات العميقة في ميزان القوى في الإقليم على عكس ما يتمناه الطرف الأميركي-الصهيوني وأذنابه، والتي ساهمت إيران ومحور المقاومة في صنعها على مدى عقودٍ من العمل الدؤوب.
لكنّ ذلك النوع من ضيق الأفق وقصر النظر بات سمة مميزة للسياسات الغربية والصهيونية سوف تسرع في فشل أهدافها، لأنها تركز على البعد التكتيكي الآني، لا الاستراتيجي طويل المدى، ومن ذلك مثلاً لا حصراً استهداف حرس الثورة مقر الموساد في أربيل شمالي العراق بالصواريخ، في 15/1/2024، وتبني تلك العملية علناً رداً على تفجيرات كرمان قرب مرقد الشهيد قاسم سليماني في الذكرى الرابعة لاستشهاده.
في جميع الأحوال، يشير تقرير “مركز ستِمسون” إلى نقطة جوهرية أخرى، وهي أن نتنياهو وحكومته، في مواجهة عجزهم عن اجتثاث المقاومة في غزة، وجدوا أنفسهم يهربون إلى الأمام من خلال محاولة افتعال معركة مع إيران تعيد رص الصف الغربي، ولا سيما الأميركي، خلف “إسرائيل”. وسنعود إلى هذه النقطة كما وردت في تقارير أخرى.
لا بد من التوقف أولاً عند نقطتين إضافيتين في تقرير “مركز ستِمسون”:
أ – الزعم أن استهداف السفارات لا يعد اعتداءً على أراضي الدول التي تمثلها تلك السفارات بموجب اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام 1961، موحياً أن ذلك أقرب إلى عُرْف منه إلى قانون دولي وارد نصاً، وهي نقطة نتركها للمختصين في القانون الدولي، ولكن إذا افترضنا جدلاً صحة ذلك الادعاء، فإنه يعني أن استهداف سفارات العدو الصهيوني في الخارج لا يُعدّ اعتداءً مباشراً على “إسرائيل”، وأنه ينزع منها تالياً أي ذريعة “قانونية” إذا استهدفت إيران سفاراتها، مع التشديد على مبدأ عدم جعل “القانون الدولي” سقفاً لمواقفنا وعملنا ضد العدو الصهيوني.
ب – ما ذكره من أن عدداً من نواب مجلس الشورى (النواب) الإيراني طالبوا برد قوي وسريع من النوع ذاته على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، وأن النائب جلال رشيدي كوتشي مثلاً غرد في 2/4/2024: “اقتراحي هو استهداف أحد المراكز الدبلوماسية للصهاينة بشكلٍ علنيٍ ومباشرٍ في إحدى دول المنطقة، ويفضل أذربيجان”.
يذكر أن السلطات الأذربيجانية أعلنت الصيف الفائت عن إحباط هجوم على مقر السفارة الصهيونية في باكو في 10/7/2023، وربما يكون ذلك غير ذي صلة بالموضوع، باعتبار أن مجرد وجود سفارة للعدو الصهيوني في أي بلد عربي أو مسلم أمرٌ مستفز للناس، مع العلم أن من اعتقلوا في تلك الحادثة كانوا أفغانيين.
قلق أميركا من استهداف قواتها ومصالحها في المنطقة
على الرغم من ذلك كله، نقلت وسائل إعلام أميركية وإسرائيلية أن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني باتا في حالة تأهب قصوى بانتظار رد إيراني يستهدف “إسرائيل” مباشرة، وأن “جيش” الاحتلال ألغى الإجازات لقواته، واستدعى احتياطيي الدفاعات الجوية، وعطل إشارات تحديد المواقع إلكترونياً GPS.
كما نقلت مواقع أميركية وإسرائيلية شتى أن جمهور المستعمرين المستوطنين في فلسطين المحتلة يعيش شيئاً من الذعر بانتظار الرد الإيراني، وأن ذلك ينعكس في الإقبال غير المعهود على تخزين المواد التموينية وسحب الأموال من الصرافات الآلية.
تأخذ القيادات العسكرية والأمنية الأميركية والصهيونية التهديدات الإيرانية على محمل الجد إذاً، وتضع في حسبانها أن يأتي الرد في فلسطين المحتلة مباشرةً، على الرغم من التقارير والمقالات التي تسعى للتقليل من خطورتها أو حجمها، ومن ذلك ما كتبه الباحث تشارلز لِستر، مسؤول برنامج سوريا ومكافحة الإرهاب في “معهد الشرق الأوسط” الأميركي MEI، المموّل خليجياً، من أن الضربة الإيرانية على “إسرائيل” يمكن أن تكون محسوبة بطريقة تسهل اعتراضها، مشيراً في الآن عينه إلى إمكانية انفلات الأمور من عقالها نتيجة سوء الحساب.
كان مما ذكره تشارلز لِستر أيضاً أن إيران قد ترفع الحظر عن استهداف القواعد الأميركية في سوريا والعراق، والذي زعمت وسائل إعلام غربية وإسرائيلية أنه وضع منذ شباط / فبراير الفائت بعد ضربات أميركية واسعة النطاق.
لا داعي للتعليق بأن هذا الطرح يصوّر فصائل المقاومة العراقية كأنها “أدوات إيرانية” فحسب، وكأن انخراطها في معركة “طوفان الأقصى” لم يأتِ تلبيةً لنداء الواجب. ومن المؤكد أن ما ذكره موقع “أكسيوس” الأميركي في 1/4/2024 من أن الولايات المتحدة أوصلت رسالة إلى إيران مفادها أنها لم تشارك، ولم تعلم، بالضربة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في دمشق، يأتي في سياق القلق الأميركي من إعادة تفعيل الهجمات ضد قواعدها في سوريا والعراق.
لكن إيران أعلنت بوضوح، في تغريدة لمسؤول كبير في مكتب الرئيس الإيراني، أن على الولايات المتحدة أن تتنحى جانباً في هذه المعركة، وأن الولايات المتحدة طلبت منها ألا تستهدفها.
وهذا يعني أن اتجاه الهجوم الإيراني سيكون ضد “إسرائيل” أو مصالحها في الخارج ما دامت الولايات المتحدة لا تتدخل عسكرياً بصورة مباشرة إلى جانب الكيان الصهيوني.
أصوات أميركية تحذر من جدية الموقف
اللافت أن مركز أبحاثٍ ارتبط تاريخياً بالمحافظين الجدد هو “أميركان إنتربرايز إنستتيوت” AEI نشر تقريراً في 5/4/2024 بعنوان “قتلت إسرائيل قائداً إيرانياً كبيراً في سوريا، فماذا الآن؟”، يركز على أمرين:
أ – جدية الموقف، واحتمالية خروج الأمور عن السيطرة، نتيجة وزن الجنرال محمد رضا زاهدي في “النظام الإيراني”، وكونه جزءاً عضوياً في النخبة الحاكمة، وكون استهداف القيادات العليا الإيرانية لا بدّ له من رادع، وكون الرد الضعيف أو المؤجل سوف ينال من هيبة إيران وتوازنها الداخلي، الأمر الذي قد يدفعها للرد بقوة، على الرغم من حرصها الشديد على عدم التورط في حرب مباشرة ومفتوحة مع “إسرائيل”.
ب – التخوف الشديد من استهداف إيران للمصالح والقوات الأميركية، مع التذكير بأن هدف إيران ليس “تدمير إسرائيل” فحسب، بل طرد الولايات المتحدة من المنطقة. لذلك، فإن على الولايات المتحدة أن ترسل رسالةً قوية في مواجهة أي تصعيد إيراني ضدها، وأن تكون مستعدة جدياً لمواجهته.
ونلاحظ ضمناً في هذا التقرير أن الرد على الكيان الصهيوني أخذ بأنه مؤكد، وإنما ينبع التخوف فقط من تطوره إلى حربٍ إقليمية كبرى.
أصوات تحذر من انجرار الولايات المتحدة إلى حربٍ ضد إيران
ركز موقع Responsible Statecraft الأميركي من جهته، في تحليلٍ نشره في 5/4/2024، تحت عنوان “هل تخطط إسرائيل لجر الولايات المتحدة إلى حربٍ مع إيران؟”، على النقاط الآتية:
أ – ضرورة عدم التقليل من حجم الضغط الشعبي في إيران ذاتها من أجل الرد بقوة على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، على الرغم من حرص قادتها على عدم الانجرار إلى حربٍ مفتوحة ومباشرة، فإن الحاجة إلى استعادة عنصر الردع هو العامل الطاغي الآن.
ب – التنبيه إلى أن الضربة الإسرائيلية للقنصلية الإيرانية في دمشق جزءٌ من سعي نتنياهو وحكومته للخروج من المأزق الغزي عن طريق فتح حرب كبرى تعيد صياغة المشهد على صورة “إسرائيل تدافع عن نفسها إزاء إيران”، بدلاً من “إسرائيل تدمر غزة”، الأمر الذي يستهدف جر الولايات المتحدة إلى حرب ضد إيران إما عبر ضغط داخلي أميركي من أجل “الوقوف مع حليفتنا إسرائيل”، أو إذا استهدفت إيران المصالح والقوات الأميركية.
جـ – التحذير من أن انجرار الولايات المتحدة إلى حربٍ ضد إيران سوف يكون باهظ الثمن أميركياً، لا نتيجة كلفة تلك الحرب المباشرة مادياً وبشرياً فحسب، بل لأنها سوف تؤثر في تعافي الاقتصاد الأميركي، وتزيد من امتعاض أهل المنطقة من الولايات المتحدة وتدفع بعضهم إلى هجمات انتقامية، ولأنها تذهب بالدور الأميركي دبلوماسياً، والأهم، لأنها سوف تحوّل الانتباه والموارد عن أولويات أخرى أكثر إلحاحاً للسياسة الخارجية الأميركية (يقصد روسيا والصين).
لعلّ النقطة الأخيرة، وخصوصاً قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية الأميركية، تشكل كابحاً كبيراً لتورط الولايات المتحدة في حربٍ كبرى ضد إيران، مع أن ذلك ليس العامل الوحيد طبعاً، فهناك اللوبي الصهيوني ووزنه، لكن المؤكد أن إدارة بايدن تفضل تأجيل تلك الحرب إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية.
مقترح صغير للإخوة الإيرانيين
في النهاية، أقترح، بكل تواضع، أن ملف استهداف القيادات العليا يمكن فصله حالياً عن ملف استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، وأن استهداف عددٍ من السفارات الصهيونية في الدول العربية والإسلامية وتسويتها بالأرض من أجل معالجة الملف الثاني، بعد أن باتت إيران تملك رخصة “قانونية” للرد بالمثل، سوف يحقق الآتي:
أ – تثبيت مبدأ الردع، من دون هجومٍ مباشرٍ على الكيان الصهيوني يتخذه نتنياهو ذريعةً لشن حربٍ كبرى.
ب – رفع أسهم إيران إلى عنان السماء بين العرب والمسلمين بعد استهداف سفارات العدو المرفوضة شعبياً إلا من طرف بعض الساقطين.
إن تلك السفارات هي قطعٌ من “إسرائيل” في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وبناءً عليه لا يعد استهدافها انتهاكاً لسيادة أحد سوى الكيان الصهيوني. كما أن المشروعية القومية والإسلامية تنعقد على مناهضة التطبيع، لا على تمريره، لذلك نجد أحرار الأرض في أقصى الغرب والشرق، حتى من غير العرب والمسلمين، يناهضون التطبيع مع العدو الصهيوني، وخصوصاً بعد عدوانه المجرم على غزة.
أما التذرع بـ”السيادة الوطنية” للدفاع عن التطبيع وسفارات العدو، فهراءٌ لا يقبله من لديه ذرة حس وطني أو قومي أو إسلامي أو إنساني.
هو اقتراحٌ صغير، ويبقى القرار بيد الإخوة الإيرانيين طبعاً، فإن وجدوا أن الرد يقتضي استهداف “إسرائيل” مباشرة، فإن ذلك من حقهم أيضاً، وهو خيرٌ على خير وبركةٌ على بركة، وكل الأمة العربية والإسلامية وشرفاء العالم سيقفون معهم في معركة مشرفة ومحقة كهذه.