رغم محاولات الاحتلال الإسرائيلي منع المقاومة في لبنان من زيادة تسليحها كمًا ونوعًا مستغلةً سنوات الحرب السورية عبر اعتماد ما أطلقت عليه اسم “المعركة بين الحروب“، إلا أن حزب الله تمكّن من إفشال الخطة الإسرائيلية ومراكمة قدراته العسكرية، الأمر الذي سيلعب دورًا كبيرًا لصالحه في أي حرب مقبلة بين الطرفين.
لم تتمكّن “المعركة بين الحروب” من منع حزب الله من مواصلة التسلح
“العمل مستمر في فتح مخازن جديدة والإتيان بصواريخ جديدة أكثر دقة ونوعية .. برًا وبحرًا وجوًا .. ما كنا نخزنه في نصف سنة عادة (قبل 7 أكتوبر) نعيد تخزينه في شهر”، بهذه العبارة مرّر مسؤول ملف الموارد والحدود في حزب الله نواف الموسوي رسالة بالغة الدلالات في مرحلة الحرب القائمة في المنطقة، والتي تشهد فيها جبهة جنوب لبنان اشتباكًا من المحتمل أن يتدحرج إلى حرب.
ما كشفه الموسوي، يدلّل على إخفاق كبير للكيان الإسرائيلي في منع تزوّد المقاومة بأسلحة نوعية بل ومراكمتها، وهو ما يمكن إضافته إلى الفشل والإخفاق المتراكمين منذ عدوان عام 2006، ومع إطلاق “المعركة بين الحروب” في سوريا منذ عام 2011 والتي شملت أهدافًا عدّة يأتي في طليعتها – بحسب المصطلح الإسرائيلي – منع وصول سلاح “كاسر للتوازن” إلى المقاومة في لبنان بما لذلك من مخاطر على الكيان سواء فيما يتعلّق بجبهته الداخلية أو المواجهة العسكرية المباشرة مع الحزب.
ولإبراز طبيعة الضربة الاستراتيجية خلال الحرب أي منذ السابع من أكتوبر لا بد من لمحة تاريخية عن “المعركة بين الحروب” التي شنّتها “إسرائيل” في سوريا وراهنت من خلالها على منع تعاظم القدرات التسليحية للمقاومة في مختلف المجالات، وهو ما سيعطيها تفوقًا في مختلف المجالات، بل ويضرب إمكانية فرض حزب الله معادلات نوعية حتى خلال أي حرب شاملة قد تقع.
“المعركة بين الحروب” في سوريا
مع اشتعال الأحداث في سوريا عام 2011 ودخول عامل الإرهاب، والتسليح الغربي والعربي والإقليمي لمجموعات “جهادية” وغير جهادية، لإسقاط الدولة في سوريا، تولّدت في الكيان خشية من نقل دمشق سلاحًا نوعيًا إلى المقاومة اللبنانية، وكذلك استغلال طهران للوضع وحضورها إلى سوريا عبر مجموعات من الاستشاريين للعمل على تعزيز قدرات حزب الله النوعية من أسلحة دقيقة ومسيرات ودفاعات جوية، وعليه أطلقت إسرائيل ما يصطلح على تسميته “المعركة بين الحروب” وهدفت إلى التالي:
– منع وصول سلاح “كاسر للتوازن” إلى حزب الله (أسلحة دقيقة – أنظمة دفاع جوي – صواريخ نوعية تتعلّق بالبحر – مسيّرات نوعية – تقنيات عسكرية متطورة – وتكنولوجيا تصنيع)
– قطع طريق إمداد المقاومة في لبنان وكشف ظهرها
– ضرب قدرات الجيش السوري التسليحية والنوعية
– إبعاد إيران عن “حدود الكيان” (التموضع الإيراني حسب التوصيف الاسرائيل)
– إنشاء منطقة “حزام أمني” مع الجولان السوري المحتل تمتد إلى عمق بين 40 و80 كيلومترًا
لتحقيق هذه الأهداف بدأت الحملة في سوريا على مراحل بدءًا من دعم مجموعات “مسلحة” بمشاركة أميركية وخليجية هدفت من خلالها إلى السيطرة على الجنوب السوري وإسقاط كتائب وتموضعات الدفاعات الجوية السورية بما يمنح الكيان حرية عمل مطلقة في الأجواء السورية، وقد نجحت في ذلك، وصولًا إلى تاريخ 31 كانون الثاني/يناير 2013 عندما بدأ الكيان المهمة بشكل مباشر عبر تنفيذ أول هجوم بواسطة سلاح الجو الإسرائيلي مستهدفًا مركز البحوث العلمية في منطقة جمرايا بريف دمشق، ويومها روّج الإعلام الإسرائيلي إلى أن الهجوم طال قافلة كانت تستعد للتوجه نحو لبنان.
نفّذت إسرائيل منذ ذلك اليوم 288 هجومًا في سوريا، شمل مئات الأهداف طالت – حسب الوقائع وتصريحات إسرائيلية – شحنات أسلحة وأنظمة دفاع جوية “سورية وتموضعات إيرانية” وبنى تحتية تشكّل خطرًا عليها ومخازن أسلحة نوعية ومراكز بحوث علمية ومواقع رادارات، ومطارات مدنية وعسكرية ومواقع أخرى.
أمام الهجوم الإسرائيلي والهدف المعلن للحملة، خاضت المقاومة في لبنان وحلفائها حربًا أمنية ضروسًا، تمكنوا من خلالها من تعطيل أهداف الحملة في مختلف جوانبها، تحديدًا فيما يتعلّق بنقل سلاح نوعي إلى لبنان بل والعمل على إقامة مشروع تصنيع صواريخ ومسيرات داخل لبنان، وهو ما تقر به أوساط إسرائيلية ومعاهد بحوث وجنرالات سابقين، وما يؤكده السيد حسن نصرالله في أكثر من مناسبة، مع توصيفه للمعركة بين الحروب بـ “الفاشلة”.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، وفي حديث تلفزيوني له بتاريخ 28 كانون الأول/ديسمبر عام 2020 حول “كميات الصواريخ الدقيقة”، أشار الأمين العام لحزب الله إلى “زيادة الكمية ضعفي ما كانت عليه قبل عام 2019”.
وفي خطاب آخر له، عام 2022، أكد نصر الله أن المقاومة باتت تطوّر صواريخ دقيقة في لبنان، وأنها تصنّع المسيّرات.
ما أعلنه نصر الله يومها، وفي ظل مواصلة “إسرائيل” حملتها، كان نعيًا كليًا لأحد أبرز أهداف “المعركة بين الحروب” المتمثّل بمنع وصول سلاح كاسر للتوازن للمقاومة في لبنان.
ما بعد عملية “طوفان الأقصى”
مع تنفيذ المقاومة في فلسطين عملية “طوفان الأقصى”، وإعلان حكومة بنيامين نتنياهو حالة الحرب، واشتعال الجبهة جنوب لبنان في الثامن من تشرين أول/أكتوبر، ودخول المنطقة حالة الحرب، سارع الإسرائيليون إلى تنفذ ضربات في سوريا، وفي يوم 12-10-2023 عطلوا مطار حلب الدولي ومطار دمشق، خشية استخدامهما من قبل محور المقاومة لنقل عتاد وأسلحة إلى المنطقة ومنها لبنان أو نقل مقاتلين حال تطور الصراع.
نفّذ الإسرائيليون 30 هجومًا طال أكثر من مائة هدف في غضون ستة أشهر، وطال أهدافًا مختلفة على امتداد الساحة السورية شمالًا وجنوبًا وشرقًا ووسطًا، واشتمل أيضًا على عمليات اغتيال واستهداف لمستشارين إيرانيين معنيين بالدعم على رأسهم الجنرال في الحرس الثوري رضي موسوي “مسؤول ملف دعم جبهة المقاومة في سوريا”، وليس أخيرًا كبار المستشارين العسكريين الإيرانيين في سوريا وهم من ضمن قوة القدس على رأسهم العميد محمد رضا زاهدي.
وفي قراءة لطبيعة الهجمات يتبيّن أن الإسرائيليين وجدوا أنفسهم متفلّتين من كثير من القيود في ظل اشتعال الحرب ومنها في الجبهة اللبنانية (لو ضمن حدود معينة) لتنفيذ ضربات متعلّقة بالتسلح الخاص بالمقاومة في لبنان، وبتموضعات للمقاومة في سوريا، وتصفية حساب مع شخصيات إيرانية عملت على إسناد قوى المقاومة.
المقاومة تكشف عن أسلحة نوعية خلال الحرب
من ثمار مراكمة السلاح النوعي، وضمن سقف المواجهة القائمة، كشفت المقاومة في الميدان عن عدة صنوف من الأسلحة أبرزها:
– صاروخ “ألماس” الذي يحمل كاميرا في رأسه ويصيب أهداف ثابتة ومتحرّكة ويتخطّى مداه العشر كيلومترات، وقد استخدم في عمليات عدة أبرزها ضرب قاعدة “ميرون”.
– طائرات مسيرة انقضاضية، دقيقة الإصابة، َقد استخدمت في عمليات عدة منها استهداف مقر قيادة المنطقة الشمالية، ومواقع وآليات ودبابات.
– صواريخ دفاع جوي لم تكشف عن طبيعتها تمكّنت من خلالها من اسقاط عدد من المسيّرات أبرزها “هيرمز ٤٥٠”، وإبعاد أخرى كانت تحلّق في أجواء المنطقة الحدودية، وهو ما تؤكّده بيانات المقاومة.
– صواريخ “بركان” و”فلق1″ معدّلة ذات قدرات تدميرية عالية، استهدفت فيها مواقع عسكرية وتجمعات جنود ومستوطنات.
ما كشف يأتي في سياق المواجهة ولوازمها، وهو قدر بسيطمما تختزنه المقاومة، لكنه مؤشر واضح على نجاحها في مراكمة أسلحة يصفها الإسرائيليون بأنها كاسرة للتوازن، وقد نجح حزب الله بإدخالها إلى لبنان طوال سنوات قبل الحرب، وربما صنع وطور بعضها محليًا.
نتيجة العدوان في سوريا ما بعد 7 أكتوبر
صحيح أن الإسرائيليين أوقعوا خسائر بشرية في صفوف المقاومة، واتخذوا من سوريا جبهة تصفية حساب، وهو ما تجلى باستهداف مستودع أسلحة في غرب حلب مرتبط بمواجهة الإرهاب في إدلب، وقبلها استهدافات في حمص والبوكمال والقنيطرة، أسفرت عن سقوط شهداء، لكن في البعد الإستراتيجي لم يمنع الأمر مواصلة المقاومة وفي ظل الحرب القائمة من مراكمة قدراتها وزيادة تسليحها النوعي وبأرقام قياسية، استناداً إلى ما صرح به نواف الموسوي.
وفي حديث لـ The Cradle يرى الخبير في الشأن الإسرائيلي، علي حيدر، أن تسلّح حزب الله خلال فترة الحرب القائمة يشكّل موشرًا على فشل استراتيجية “المعركة بين الحروب” التي اتبعتها “إسرائيل” خلال السنوات الماضية.
ويرى حيدر أن مواصلة حزب الله مراكمة السلاح يعكس أبعادًا عدة أبرزها أن “مظلة الردع لا زالت تلقي بظلالها على منشآته الاستراتيجية وأن تلك المظلة فعالة جدًا، عكس الانطباع الذي يوحي به تنفيذ بعض الضربات هنا وهناك، كما يعكس مستوى التطوّر الذي بلغته المقاومة في الخبرة والإنتاج وتصميمها على مواصلته تصاعديًا”.
وعليه، يعتبر الخبير في الشأن الإسرائيلي أن “ثمة مرحلة جديدة قد ارتقى حزب الله إليها وتشكّل تحديًا إضافيًا لكيان العدو وإرادة المواجهة“.
من جهة ثانية، يؤكد حيدر أنه “في ظل المعركة بين الحروب العدوانية، نجح كل من حزب الله وسوريا وإيران وكامل محور المقاومة في التأسيس لهذه المرحلة الجديدة من إنتاج السلاح“، مشيرًا إلى أن هذه المرحلة “تندرج ضمن خطة تهدف إلى إيصال أطراف المحور إلى قدرة الإنتاج الذاتي لحاجاتهم”.
ويجزم حيدر أن للأمر “رسائله وتداعياته على مستوى المستقبل فيما يتربط بالمعادلات وتبديد كثير من الرهانات التي تراود كل من واشنطن وإسرائيل“.
في المحصلة، إن تمكّن المقاومة في لبنان وفي ظل الحرب القائمة من زيادة قدراتها التسليحية، كمًا ونوعًا، وبشكل مضاعف، يعد ضربة استراتيجية جديدة للكيان الإسرائيلي الذي صرف مليارات الدولارات على “المعركة بين الحروب” في سوريا، دون تحقيق أهدافها، وأثر هذه “العملية التسليحية” الكبرى لحزب الله ستلقي بظلالها على الحسابات الحربية الإسرائيلية
خصوصًا إن جنح “مجلس الحرب” نحو اتخاذ قرار بالحرب على لبنان، ويمكن عندها لمس مفاعيل الجهد الذي بذل ويبذل على صعيد التسلح خلال الحرب.