أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة ،في مقر المجلس ـبعد أن ألقى خطبة الجمعة التي جاء فيها:
اللهمّ لكَ الحمد حمد الشاكرين على نعمة الإيمان ونعمة الإسلام.
﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ونسأله تعالى التوفيق لشكره باستغلال شهر رمضان بأداءِ هذه الفريضة الربّانية تقرُّباً وطاعةً لله سبحانه وتعالى وامتثالاً لأمره وشُكراً لنعمائه كما يقتضيه واجب العبودية له، فهو وحده دون غيره من له الأمر والنهي والطاعة، لأنه الخالق والبارئ والمصوّر والرازق المحيي والمميت والمتصرّف وكما يقتضيه واجب شكر المنعم، على أنَّ ما شرعه الله سبحانه من أحكام إنما اقتضته حكمته من انتظام حياة البشر وصلاحها واستقرارها كما شاءت إرادته التكوينية في انتظام سير الكون والحياة”.
اضاف: “غاية الأمر انه أراد أن يكون أمر انتظام الحياة الاجتماعية وفق الأحكام الإلهية وشريعته بإرادة واختيار الإنسان نفسه الذي اقتضى أن يحمّله مسؤولية ذلك، وما كان ذلك ممكناً دون هذا الإعجاز في التركيب من الغرائز التي تحثّه على السعي نحو تحقيق رغباتها التي لا حدود لها، ومن العقل الذي من وظيفته أن يحدّ من جموحها ويحقّق التوازن المطلوب بين الرغبات والأهواء الشخصية النفسية وبين ما تقتضيه المصلحة، غير أن اكتشاف المصالح والمفاسد ليست وظيفة العقل وحده لأن إدراكاته محدودة بحدود ما تنتجه التجارب التي تحتاج إلى مرور قدر من الزمن غير قليل في حياة الأفراد والمجتمعات ومنه المجال التربوي وبناء الشخصية الإنسانية الصالحة والبنّاءة التي هي الأساس في البناء الاجتماعي وتوجيه استخدام نتائج البحوث العلمية والتجارب التربوية لصالح البشرية واستقرارها الذي يؤكّد قصورها عن معرفة مصالحها وحاجتها إلى تأكيد الارتباط بالله سبحانه عن طريق المعرفة والعبادة والتزكية التي لا سبيل للاهتداء إليها إلا عبر الرسل والأنبياء بما أوحى الله إليهم من شرائع ورسالات على نحو متدرج كما تقتضيه الطبيعة البشرية ومصالحها، لأن لكل مرحلة منها احتياجاتها ومصالحها والرسالات مهمتها الارتقاء بالوعي البشري ومعارفها المتناسب معها بشكل تدريجي أيضاً”.
وتابع: “لذلك شكَّل الإسلام فيما يتضمّنه من تعاليم ومعارف وأحكام فردية واجتماعية المرحلة النهائية من تدخل السماء والوحي في عملية الارتقاء بالوعي البشري والمعارف الإلهية وما يحتاجه الفرد والمجتمع في عملية التزكية وبناء الشخصية الصالحة والمجتمع الصالح الذي يشكل الهدف الإلهي من الخلق والإيجاد”.
وأكد “انّ تشريع فريضة الصوم تأتي في هذا السياق مثلها مثل سائر العبادات، فتزكية النفس وتوثيق العلاقة مع الله تعالى بأنواع مختلفة من أشكال العبادات هي حاجة بشرية مستمرة وإن اختلفت صيغها من شريعة إلى أخرى، فالصوم والصلاة والزكاة بل الحجّ أيضاً لم يقتصر تشريعها على الإسلام لأنها تلبّي حاجة بشرية ثابتة، ولذلك كانت هذه الفرائض من التشريعات والفرائض المشتركة بين كل الديانات السماوية ألا أنّ اختلاف صيغها اقتضتها الحاجة لتطوير أساليب الارتقاء بالوعي البشري التي يفرضها تطور الحياة الاجتماعية والتي كلما تطورت كلما اشتد لدى النفس الرغبة في الانغماس في الحياة المادية أكثر”.
وقال: “وبمناسبة الحديث عن شهر رمضان المبارك، فقد ربط الله تعالى في الآية المباركة بينه وبين نزول القرآن وهذا الربط ليس لمجرد بيان الربط الزمني والتأريخي لهذا النزول وإنما هو ربط في المغزى والهدف بينهما، وأن شهر رمضان بما أنه شهر الصيام يؤدي في نفس السياق الهداية الإلهية كغاية لنزول القرآن وهو اختار شهر رمضان لأداء هذه الفريضة وقدَّر فيه ليلة القدر وإنها خير من ألف شهر كما اختاره مناسبة لنزول القرآن واختار شهر ذي الحجة لأداء فريضة الحج لحكمة اقتضتها إرادته ولما تقتضيه مصلحة الهداية للناس”، مشيرا الى ان “أهمية القرآن بالإضافة إلى انه كلام الله تعالى انه كتاب هداية، (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، وهو إنما يُخرج الناس من الظلمات إلى النور ليس فقط بالرؤية العقائدية وإنما بالتزام الأحكام وتطبيقها ومنها فريضة الصوم التي تهيئ النفس بما يفيضه عليها من الصفاء الروحي والابتعاد عن التعلّق بالمادة وتحريره من سطوة الشهوات والغرائز تحرّر إرادته في الاختيار والخضوع لمنطق الحقّ والانقياد له وتيسّر عليه مواجهة قوى الطغيان والبغي لأنها تسلبه سلاحه الذي يستخدمه في فرض إرادته على الناس باستغلاله نقاط الضعف لديهم كالخوف على النفس والمصالح”.
اضاف: “فالصوم إلى جانب انه تعبير عن العبودية لله تعالى فهو أيضاً شكلٌ من أشكال معالجة نقاط الضعف الإنساني وتحريره من سطوة الشهوات بالشكل المتناسب مع قوتها الجامحة، ومن هنا وعند مراجعة الروايات والآيات نرى أنها استخدمت لذلك أسلوب من الحثّ والتشديد وان ثوابه هو أعلى من أن يرقى إليه الخيال مهما بلغ، عبَّرَ عن ذلك حديث النبي (ص) عن الله تعالى بقوله: “الصوم لي وأنا أجزي به”، وأما التهديد فقد ورد في كتاب الهداية (47) قال الصادق (ع): ” مَن اَفطَرَ يَوماً مِن شَهرِ رَمضان خَرَجَ رُوحُ الايمانِ مِنه”.
وهذا نموذج من الروايات الواردة في هذا الشأن، على أن من فضائل هذا الشهر المبارك أن جعله ميداناً للعمل الاجتماعي والإنساني وأعمال البرّ ولتقوية الأواصر بين الأرحام وبين المؤمنين وتفقّد المحتاجين وخصوصاً أولئك الذين تربّوا على العزّة والأنفة فيموتون جوعاً ولا يمدون أيديهم إلى الناس كما هي تعاليم القرآن (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) وكما هي تربية أهل البيت (ع) ووصاياهم للمؤمنين، فما تقدّم من كلام الإمام الحسن المجتبى ع في بيان صفات اتباعهم: “إن شيعتنا يموتون جوعاً ولا يمدون أيديهم إلى الناس” تعبيراً عما يريدون أن يكون عليه أتباعهم من التعفّف عما في أيدي الناس ومن الأنفة والكرامة، فهؤلاء لا يظهرون فقرهم وحاجتهم لما فيها من مظهر الذلة وهم كما عَبَّرَ الله تعالى عنهم (أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) ولما تربّوا عليه وهم يتلون كتاب ربّهم وهو يخاطبهم بقوله (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) إن هؤلاء الكرام يُكرمون بالهدية لا بالتصدّق عليهم، فالصدقة كما ورد في حديث عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب: أنه جاء يسأل النبيَّ ﷺ في الإمرة على أعمال الصَّدقة، فقال له ﷺ: إنَّ الصدقة لا تنبغي لمحمدٍ، ولا لآل محمدٍ، إنما هي أوساخ الناس”
فهؤلاء الكرام وإن لم يكونوا من بني هاشم إلا أنهم يستحقّون لتعفّفهم التكريم وهو ما ينبغي أن يكون عليه جميع المؤمنين، ولا اقصد بذلك التقليل من الصدقة فهي أمر ورد الاستحباب فيه ولكن للمتصدّق، أما من يأخذ الصدقة فأراد الله ورسوله وأهل البيت (ع) أن يحثّه على التعفّف والاجتهاد في العمل وعدم الكسل والاعتماد على ما يتصدّق به الناس كما عن الصادق (ع) قال رسول الله (ص): “كل معروف صدقة وأفضل وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من السفلى. ونحن في شهر الله تعالى شهر الرحمة وعمل الخير الذي يتضاعف فيه الثواب والقصد في النهاية هو التربية وصناعة الشخصية التي لا ترى لها من وجود إلا بما تصنعه وبما تتركه من أثر في الحياة، فالشخصية الصالحة ليست جمالاً في الشكل ولا غنىً في المال ولا اقتداراً سلطوياً يخضع له الناس خوفاً أو رجاءً أو طمعاً، قال تعالى: (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)
الذين يحوّلون أعمارهم التي ليست إلا عبارة عن الزمن الذي يفوت ويمضي فيكون خسارة العمر إلا أن يستثمره في أمر لا يموت ولا يفنى وهو العمل الصالح تاركاً وراءه في الحياة الأثر الصالح والسمعة الطيبة وفي الآخرة بديلاً لا يقارن بأعظم ما يحلم به من حياة “فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر”، وعن الإمام الصادق (ع) عن أهم حقوق المسلم على المسلم قوله (ع) عن أبي عبد الله (ع) أن النبي (ص) قال: “من أصبح لا يهتم بأُمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم”.
وقال: “وليس هناك اليوم أيها الأخوة من أمور المسلمين ما هو أهم مما يتعرّض إليه الشعب الفلسطيني من إبادة وقتل ومجازر ودمار لا يتوقّف عليه مصيره فقط وإنما مصير الأمة كلها، وهم يناشدون أبناء أمتهم وجلدتهم ودينهم لنجدتهم ودفع الجوع والعطش والقتل عنهم وعن أبنائهم والدفاع عن أعراضهم وكرامتهم وهم مع كل هذا الخذلان والصمت العربي والإسلامي إلا القليل ممن امتلأت قلوبهم إيماناً وشهامةً يقفون بكل شجاعة ينازلون العدو، لم يدعهم الخذلان أن يستسلموا أو يرفعوا الراية البيضاء وهم يدفنون أبناءهم وأعزاءهم وتهدم بيوتهم على رؤوسهم ولا يجدون ملجأ يلجأون إليه أو رغيفاً يسدون به جوع أبنائهم أو حبة دواء يسكّنون بها أوجاعهم أو مشفى يعالجون به جراحهم سوى الصبر ووعد ربهم بالنصر، وها هم يرون المدد الإلهي فيما ينزلونه بجيش العدو قتلاً وإثخاناً بالجراح ونقصاً في الأعداد وانسداداً لأبواب الخروج من أوحال غزة بانتزاع صورة نصر عزّت عليهم، هذا والقوى الغربية الغاشمة تقاتل معهم وتمدّهم بالسلاح والعتاد، فلتعتبر الشعوب العربية والإسلامية من أهل غزة وهم وحدهم في الساح محاصرون في بقعة جغرافية ضيقة ومحاصرة، فكيف لو أن الأمة وقفت إلى جانبهم ولو بالمساندة بحدها الأدنى، هكذا تعيشون شهر الصيام؟؟ وبماذا تشعرون عند إفطاركم وسحوركم؟ أفلا يذكركم بأن أهل غزة يفطرون ويتسحّرون على شهدائهم وجوعهم وعطشهم؟ وبماذا سوف تجيبون ربّكم ونبيّكم؟ بل كيف هو موقفكم أمام الأمم والشعوب الأخرى التي بادرت إلى التضامن معهم في شتى أنحاء العالم وانتم لا حراك فيكم ولا صوت يصدر منكم سوى أصوات التخذيل والتخويف والتجبين من أن يصيبكم ما أصاب غزة من القتل والدمار كما يفعل بعض الإعلام في بلاد العرب وفي لبنان، أظننتم أن هذا العدو الذي أصابه ما أصابه في حرب غزة من القتل والوهن والفشل يمتلك الجرأة في توسعة الحرب إلى ميادين أخرى كالساحة اللبنانية التي أعدّت له فيها المقاومة عدّتها وأذاقته طعم الهزائم المنكرة والمُرة في الماضي والحاضر”.
وتابع: “فكما فشلت هذه المحاولات أن تخيف شعبنا وتهزم إرادته في مواجهة العدوان واستسلمت لإرادته في الماضي فكذلك اليوم وهي أكثر إيماناً وأشدّ عزيمةً اليوم وتصميماً من أي وقت مضى على المضي في حماية لبنان وجنوبه ومساندة القضية الفلسطينية وشعب غزة وسيخسر المثبّطون الرهان اليوم كما خسروه بالأمس وما قبله الذين يُفشلون أي محاولة داخلية للحل منتظرين ما يعدهم الشيطان وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، الذين لم يعتبروا من المراهنات السابقة الخاسرة (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا)، فلا خيار إلا بالحل الداخلي بالتوافق والجلوس إلى طاولة الحوار دون المزيد من تضييع الفرص بالمراهنات الخاسرة.