مقالات

نزع السلاح وهم

من السهل على الطاولة الدولية أن تُصاغ الكلمات: نزع السلاح، الشرعية وحدها تحتكر القوة، قرار الدولة. لكن تلك الطاولة الباردة لا تعرف حرارة الدماء. لا تعرف كيف يُدفن الشهيد في أحضان أمّه، ولا ترى الرضيع الذي كبر يتيمًا لأن والده قرر أن لا يموت على فراشه. تلك الطاولة لا تعرف شيئًا عن شتاء الجنوب، حين كانت المنازل بلا نوافذ، والأطفال يحتمون بصوت المقاومة لا بجدران بيوتهم.

فأي سلاحٍ هذا يُطلب نزعه؟
هل يُمكن نزع بندقيةٍ حمت الضيع من الذبح؟
هل يُمكن نزع بندقيةٍ عادت بأسرى كانوا منسيين خلف قضبان العدو؟
هل يُمكن نزع سلاحٍ هو ترجمة لعقيدة، لا مجرّد قطعة حديد؟

من يطلب نزع سلاح المقاومة، يتعامل مع الأمر وكأنّه قرار تنظيمي، أو بند في دستور قابل للتعديل. لكنه يتجاهل الحقيقة الجوهرية: المقاومة ليست حزبًا فقط، ولا جماعةً قائمة على هيكل إداري. المقاومة هي بيئة، وجمهور، وذاكرة، وجرح لم يندمل.

من يُطالب بنزع السلاح، يُخطئ حين يظن أن البندقية محفوظة في مخزن، يمكن جمعها وإقفال الباب. لا يدري أن السلاح محفورٌ في الذاكرة، مغروسٌ في التربية، ومطبوعٌ في كفّ الفلّاح الذي حفر خندقه بجانب شجرة التين. لا يدري أن هناك أمهات علّمن أبناءهن أسماء الشهداء قبل أن يتعلّموا الأبجدية. لا يدري أن هذه الأرض رُويت بالدم، وأن الدم لا يُنسى.

وهل نزعتُم من قلوب الأمهات بكاءهن على فلذات أكبادهن؟
هل نزعتم من أرصفة المخيمات حكايات القصف والحصار؟
هل نزعتم من أصوات المساجد لحظة التكبير عند الفجر، حين عاد المقاومون سالمين من عمليةٍ نوعية؟

المقاومة ليست مجرد سلاح. هي وجدان.
ولذلك، فإن نزع سلاحها لا يمكن أن يتم بقرار، بل يحتاج إلى معجزة كبرى: أن تُشفى الذاكرة، أن يُعاد من استُشهد، أن تُمحى كل لحظة عجزٍ عربي، وخيانة رسمية، وصمتٍ دولي. وهذه مستحيلات.

في أماكن كثيرة من العالم، جرت محاولات مشابهة. حاولت الدولة التركية تفكيك حزب العمال الكردستاني لعقود، ففشلت، لأن النار لا تُطفأ بالإنكار. حاولت الدولة الكولومبية نزع سلاح “فارك” بعد اتفاقيات، لكنها وجدت أن الفكر المقاوم لا يُسلم بسهولة. في العراق، وُقّعت تفاهمات كثيرة، لكن الفصائل التي قاومت الاحتلال الأمريكي بقيت عصيّة على الاحتواء، لأن الاحتلال لا يُداوى بالحبر، بل يُهزم بالميدان.

وبالتالي، فإن السؤال ليس: هل يمكن نزع السلاح؟
بل السؤال الأصدق: من سيجرؤ على انتزاعه؟ ومن سيتحمل تبعات ذلك؟

حين نزف الجنوب، وحُوصر الضاحية، وسقطت صواريخ الغدر في قلب البيئة الحاضنة، لم تنكسر المقاومة. بل ازدادت التصاقًا بشعبها. وهذه العلاقة، علاقة الدم والدرب، لا تنفصم بسهولة.

لو كان السلاح غريبًا عن هذه البيئة، لربما كان يمكن الحديث عن ذلك.
لكن السلاح الذي يُراد نزعه، هو نفس السلاح الذي حُمِل فوق الأكفّ يوم وداع الشهداء، ونُقشت عليه أسماء الأبطال في وجدان الجماهير.

من لا يفهم هذه المعادلة، سيبقى يتخبط في أوهامه، ويتلو بيانات لا تصنع واقعًا، ولا تُقنع شعبًا عاش كل شيء إلا الهزيمة.

ريما فارس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى