إذا كان عام 2023 بحجم أعوام عدّة، ما انعكس تخبّطاً إعلاميّاً، فإنّه كان بمنزلة جولة تدريبية للإعلام اللبناني في تعامله مع عام 2024 الذي أتى بحجم عقود. للمفارقة، فإنّ غزارة الأحداث لا تنعكس بالضرورة إطالةً في لائحة التفاصيل، إذ يمكن ربط معظم أحداث هذا العام بعضها بعضاً إعلاميّاً، بما أنّ التعاطي معها كان متشابهاً والمشهد الإعلامي لم يتبدّل طوال العام، ولو أنّه يمكن رصد تحوّلات معيّنة بالمقارنة مع أعوام سابقة.
مثل العام الذي سبقه، كان 2024 ظالماً بحقّ الجسم الصحافي، و«الفضل» في ذلك يعود كالعادة إلى كيان الاحتلال الصهيوني الذي يستهدف الصحافيّين لإسكاتهم وإطفاء الكاميرات منعاً لفضح جرائمه. وبعد قتله الصحافيّين الشهداء عصام عبدالله وفرح عمر وربيع المعماري العام الماضي، أكمل الكيان هذا العام على زملائهم الشهداء هادي السيّد وكامل كركي وحسين صفا ومحمّد غضبون ومحمّد بيطار وعلي الهادي ياسين، إضافة إلى غسّان نجّار ومحمّد رضا ووسام قاسم الذين استُشهدوا في استهداف مباشر ومتعمّد لمقرّ إقامتهم في حاصبيّا (جنوب لبنان) مع صحافيّين آخرين جُرح بعضهم في الهجوم، حيث كانوا يغطّون العدوان على لبنان واستقرّوا في منطقة بعيدة عن أيّ مظاهر عسكرية وتحت أعين الرادارات الإسرائيلية التي كانت على معرفة تماماً بهويّتهم الصحافية («الأخبار» 27/11/2024). كما تعرّضت مكاتب «الميادين أونلاين» لاستهداف صهيوني، فيما دمّرت المقاتلات الحربية مبنى قناة «الصراط» ومبنى قناة «طه» للأطفال.
دخل اللبنانيّون عام 2024 بالمشهد الإعلامي ذاته الذي خرجوا به في عام 2023، وخصوصاً في ما يتعلّق بـ«طوفان الأقصى» والعدوان على غزّة ولبنان. وافتُتح العام بظهور رئيس حزب «الكتائب اللبنانية» سامي الجميّل إلى جانب إسرائيليّين على قناة BFM الفرنسية التي كانت مملوكة في حينه للملياردير الإسرائيلي الفرنسي پاتريك دراحي (قبل أن تنتقل في وقت لاحق من العام إلى شركة CMA-CGM المملوكة لرودولف سعادة)، محمّلاً المقاومة مسؤولية العدوان الإسرائيلي. ونصّب الإعلام المهيمن نفسه محامي دفاع عن الجميّل، بما في ذلك «الجديد» التي فاجأت بعضهم بتقرير منحاز هدف فقط إلى الدفاع عن الجميّل من دون نقل وجهة نظر الطرف الآخر، ولا سيّما بعد أشهر من رفعها لواء المقاومة من جديد («الأخبار» 22/1/2024). واستمرّ هذا الانحياز في آذار (مارس) مع تفاعل قضية الراهبة مايا زيادة التي انتشر مقطع لها وهي تخطب أمام أطفال في مدرسة داعيةً إلى الصلاة من أجل أطفال غزّة والجنوب اللبناني ورجال المقاومة الذين يدافعون عن لبنان، وفصلها عن الكنيسة بسبب اعتراض بعض الأهالي. إذ تماهت قناة «الجديد» في حينه مع رأي أحزاب وأطراف معارضة لمبدأ المقاومة، وبثّت تقريراً مخالفاً للأصول المهنية بأخذ الرأي والرأي الآخر، شنّت فيه هجوماً على الأخت مايا زيادة، مستخدمةً تعابير مثل «مساحة الوطن» و«السواد الأعظم» لادّعاء أنّ طائفة بأكملها تشارك رأي هذه الأطراف («الأخبار» 13/3/2024). واتّهم التقرير زيادة باستخدام لغة سياسية، ولم تنقل وجهة النظر الأخرى سوى في الثواني البضع الأخيرة عندما اجتزأت تعليقاً من شقيقة زيادة!
وفي شهر آذار أيضاً، تولّت قنوات مهيمنة وعلى رأسها mtv تحريف خبر للتحريض على المقاومة. إذ وقع ما عُرف بحادثة رميش («الأخبار» 27/3/2024) بحيث طُردت سيّارتان مدنيّتان من البلدة، فانكبّت أحزاب معادية للمقاومة على التضليل، مدّعيةً أنّهما تابعتَان للمقاومة وأرادتا إطلاق صواريخ من البلدة، فيما حتّى الأهالي أكّدوا أنّه لم يكن في بلدتهم أيّ منصّات لإطلاق الصواريخ. وشنّت mtv حملة على المقاومة، مستخدمةً عبارة «على طريق رميش» (في إشارة إلى عبارة «على طريق القدس»)، نافيةً أيّ تأثير لحرب إسناد غزّة. كما كان لافتاً تشبيهها الحادثة ــــ إلى جانب LBCI ـــــ بحادثة شويّا عام 2021، وليس غيرها من حوادث مشابهة أريدَ عبرها افتعال الفتنة («الأخبار» 29/3/2024). أمّا «الجديد» فتعاطت مع الموضوع في حينه باتّزان.
وفي نيسان (أبريل)، وقعت حادثة قتل المسؤول في «القوّات» باسكال سليمان في قضاء جبيل، فأعاد إعلام الحرب الأهلية قرع طبوله. وتولّت صفحات تدور في فلك «القوّات» والولايات المتّحدة ربط الجريمة زوراً بـ«حزب الله»، رغم دعوة قيادة «القوّات» إلى التهدئة في حينه، واستبقت التحقيقات التي وصلت في النهاية إلى كون الجريمة وقعت على يد عصابة سرقة مؤلّفة من سوريّين ولبنانيّين، فانتقل التحريض عندها إلى النازحين السوريّين، وقد ظهر بشكل خاصّ على mtv («الأخبار» 10/4/2024). أمّا OTV فلعبت على الوترَين، وانتقدت «الجديد» ما سمّته «الأحزاب المسيحية» واصفةً إيّاها بـ«الحلف الثلاثي»، فيما ركّزت LBCI على كلمة الأمين العام السابق لـ«حزب الله» الشهيد السيّد حسن نصرالله، كونها كانت الأولى منذ أشهر التي تناولت أحداثاً داخلية غير متعلّقة بـ«طوفان الأقصى» وحرب الإسناد. كذلك فعلت NBN و«المنار» اللتان لم تعرا الحدث الأهمّية المطلوبة، رغم خطر الفتنة الذي حمله في طيّاته.
انتخابات واغتيالات وتهويل
في نيسان أيضاً، حصل الهجوم الإيراني الأوّل على الأراضي المحتلّة ردّاً على القصف الصهيوني للقنصلية الإيرانية في دمشق، فتحوّلت شاشات التلفزة اللبنانية إلى النقل المباشر، فيما انكبّت قنوات عدّة على نقل الأخبار على لسان العدوّ بشكل متواصل، هي التي لم تتوقّف عن ذلك منذ «طوفان الأقصى». وتخبّطت قنوات عدّة في طريقة تناول الخبر، فيما عادت mtv إلى عادتها في التهويل لما وصفته «حرباً كبرى» («الأخبار» 16/4/2024). في الشهر عينه، أعلن الإعلامي اللبناني في قناة «العربية» الطاهر بركة أنّه محروم من زيارة لبنان بسبب دعوى قضائية ضدّه لاستضافته شخصيّات إسرائيلية على هواء القناة التي يعمل لديها، فثارت حفيظة جوقة إعلامية ملبسةً الموضوع عباءة «حرّية الصحافة»، فيما ادّعى بركة أنّه لا يجب أن يخضع لقوانين لبنان، بل قوانين الإمارات حيث تبثّ القناة («الأخبار» 24/4/2024). وبعد المقال الذي نشرته «الأخبار» عن الموضوع، أطلّ بركة في برنامج «صار الوقت» الذي يقدّمه مارسيل غانم على mtv، ليدافع عن نفسه مجدّداً تحت حجّة حرّية الصحافة التي رُبطت أيضاً بالمقاومة، وأعلن عزمه على رفع دعوى على الصحيفة بسبب عنوان المقال.
وشهد عام 2024 رحيل شخصيّات عدّة، بدأت باستشهاد القيادي في «حماس» صالح العاروري في غارة صهيونية على ضاحية بيروت الجنوبية، وبمقتل الرئيس الإيراني السابق ابراهيم رئيسي مع وزير خارجيّته حسين أمير عبد اللهيان في حادث تحطّم مروحيّتهما في أيّار (مايو)، وهو ما اعتُبر باكورة رحيل شخصيّات من الصنف الثقيل، ولا سيّما لدى محور المقاومة. وشغل الحدثان الإعلام اللبناني، وراحت التكهّنات حول الخلفيّات تأخذ مداها، إضافة إلى إعادة نشر مقاطع لمنجّمين لبنانيّين مع ادّعاء إصابتهم بتوقّعهم للحادثة («الأخبار» 20/5/2024). وركّز الإعلام على الانتخابات الرئاسية في إيران، وخصوصاً مع فوز محمود پزكشيان الذي اعتُبر ذا توجّه مسالم مع الغرب. ولم تكن الانتخابات الإيرانية الوحيدة التي شغلت الإعلام اللبناني، إذ كانت انتخابات فرنسا البرلمانية الشغل الشاغل للإعلام بعد التقدّم الكبير لليمين المتطرّف، قبل أن يعود تحالف اليسار ويخالف التوقّعات بفوزه بالعدد الأكبر من المقاعد. كما احتلّت الانتخابات الرئاسية الأميركية مكانة مهمّة على القنوات اللبنانية، لا سيّما مع هفوات الرئيس جو بايدن ومحاولة اغتيال الرئيس المنتخب دونالد ترامب مرّتَين، وصولاً حتّى انسحاب بايدن وترشيح نائبته كامالا هاريس وفوز ترامب. شكّلت كلّ هذه الأحداث مادّة دسمة عالميّاً، فاستغلّ الإعلام اللبناني الفرصة، وبلغ حدّ إرسال مراسلين إلى الولايات المتّحدة، كما إلى فرنسا. ولعلّ أبرز ما رشح عن ذلك المقابلة التي أجرتها mtv مع ترامب وقول مراسلها أنتوني مرشاق له «إنّنا القناة الوحيدة في لبنان التي تتحدّى نفوذ «حزب الله» باستمرار»، وردّ فعل ترامب غير المبالي، ما استجلب السخرية من القناة ومن مرشاق على التعريف عن القناة بطريقة غير مهنية بتاتاً، عدا عن افتخارهما بلعب دور الواشي على أبناء بلدهما، وخصوصاً في عزّ العدوان الإسرائيلي على لبنان. كما أخذت انتخابات مجلس الشعب السوري تحت راية النظام السابق حيّزاً معتبراً في الإعلام اللبناني.
في حزيران (يونيو)، أزاحت «مؤسّسة سمير قصير» الستار عن مشروع ضخم عبارة عن نسخة مُحدّثة من «مرصد ملكية الإعلام في لبنان»، يتضمّن قاعدة بيانات للمالكين الأفراد والشركات العاملة في قطاع الإعلام («الأخبار» 4/6/2024). وفي أواخر الشهر عينه، نشرت صحيفة «ذا تلغراف» البريطانية مقالها الشهير الذي حرّضت فيه على مطار بيروت الدولي، فلاقتها «الجديد» وLBCI وmtv في منتصف الطريق بنشر أكاذيبها وتبرير أيّ قصف محتمل للمطار. وما لبثت «الجديد» أن أعادت ضبط لغتها بعد مؤتمر صحافي عقده وزير الأشغال العامّة والنقل في حكومة تصريف الأعمال علي حمية ورئيس مطار بيروت فادي الحسن كذّبا فيه التقرير وأعلنا عن جولة إعلامية في اليوم التالي، فتولّى الإعلامي في القناة رياض قبيسي شرح «لامعقولية» تقرير الصحيفة البريطانية، مهاجماً وزير النقل («الأخبار» 24/6/2024).
في تمّوز (يوليو)، وقعت مجزرة مجدل شمس التي راح ضحيّتها عدد من الأطفال بسبب صاروخ اعتراضي إسرائيلي، فيما اتّهم كيان الاحتلال المقاومة بالمجزرة. مجدّداً، زاد التهويل بالحرب على الشاشات اللبنانية، وتضاعف بعد قصف العدوّ ضاحية بيروت الجنوبية واستشهاد القيادي في «حزب الله» فؤاد شكر. وعنونت mtv في حينه: «أدرعي يعلن مهاجمة المسؤول عن قتل الأطفال في مجدل شمس» («الأخبار» 31/7/2024). وبعد استشهاد شكر بيوم، استُشهد رئيس المكتب السياسي في «حماس» إسماعيل هنية في هجوم صهيوني في طهران، فعادت نغمة «الحرب الكبرى» لتخيّم على الشاشات.
في هذه الفترة أيضاً، كان الإعلام اللبناني يعطي مساحة معتبرة لبطولات رياضية عالمية مثل «كأس أمم أوروبا» لكرة القدم وأولمبياد باريس. وتولّت LBCI بشكل خاصّ نقل الأنشطة المتعلّقة بهما، وخصوصاً مع إقامة نقطة تجمّع في بيروت تخصّ البطولة الأوروبية، ومشاركة عدد معتبر من الرياضيّين اللبنانيّين في الأولمبياد، الذين تابعت القناة نشاطاتهم يوماً بيوم. ومع حلول الرابع من آب (أغسطس)، عادت إلى الشاشات المهيمنة لغة الانقسام التي تتكرّر كلّ سنة. وتولّت mtv من جديد التحريض على المقاومة بنبرة عالية وإلقاء المسؤولية عليها بتفجير المرفأ قبل أربع سنوات وتعطيل التحقيق بشأنه («الأخبار» 6/8/2024)، وأكملتها بعد رسالة وجّهتها «حماس» إلى «حزب الله»، ثمّ بعد ردّ المقاومة على اغتيال الشهيد فؤاد شكر، بحيث أعادت التهويل بالحرب مع نغمة «قرار الحرب والسلم»، ونشرت إلى جانب وسائل إعلام أخرى أخباراً كثيرة منقولة عن قيادة كيان الاحتلال، كما شاركت جميعها في بثّ أخبار كاذبة حول توقّف حركة الطيران في مطار بيروت. من جهة أخرى، استمرّت حملة «لبنان لا يريد الحرب» التي كانت بدأت في العام السابق، قبل أن تزيل «ميتا» حساباتها لانتهاكها سياساتها كما قالت الشركة في بيان فضحت فيه الحملة على أنّها من إطلاق شركة في ڤيتنام بثّت دعايات سياسية في دول عدّة طالت حتّى قطر والولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا («الأخبار» 26/8/2024)، بعدما كانت قد واجهت أيضاً دعوى قضائية من عائلة الشهيد عصام عبدالله بسبب استخدامها صورة لها وهي تبكيه من دون إذنها، لبثّ رسائل سياسية معادية للمقاومة. وفي أواخر آب، تجدّد السجال القديم الجديد بين mtv و«الجديد»، على خلفية عدم تشغيل معامل الكهرباء وبثّ mtv تقريراً حول مسؤولية آل الخيّاط في ملفّ الفيول، فأعادت القناتان نكء كلّ ما هنالك من جراح واستمرّت الحملة المتبادلة بينهما أيّاماً عدّة في نشرات الأخبار. من جهة أخرى، برز إلى العلن موقع «جدار صوت» الإلكتروني عاكسًا طرافة اللبنانيّين، إذ أعطى الناس المجال لتوثيق خرق جدار الصوت الذي تسبّبه طائرات العدوّ وتقييمه.
فبركات وأخبار كاذبة
ومع ارتكاب العدوّ الصهيوني جريمة تفجير «البايجر» وأجهزة الاتّصال اللاسلكي التابعة للمقاومة في 17 و18 أيلول (سبتمبر) على التوالي واستشهاد مدنيّين ومن ضمنهم أطفال، «توحّد» الإعلام اللبناني إلى حدّ ما، مركّزاً على الجانب الإنساني للجريمة وواضعاً جانباً الرسائل السياسية («الأخبار» 19/9/2024). ورغم أنّ mtv لم تكن استثناءً، إلّا أنّها عادت إلى عادتها القديمة مع العدوان على الضاحية في 20 أيلول الذي أوقع أربعين شهيداً بمَن فيهم قادة في المقاومة على رأسهم الشهيد إبراهيم عقيل. إذ واصلت القناة النقل عن لسان قادة العدوّ بشكل غزير، وكانت من أكثر وسائل الإعلام بثّاً لتقرير حول لائحة أسماء مزعومة للقادة الجدد لـ«قوّة الرضوان». وفيما توحّدت القنوات كلّها مع انطلاق العدوان الصهيوني على لبنان في 23 أيلول الذي استمرّ 66 يوماً، غرّدت mtv خارج السرب رغم استشهاد أكثر من 500 شخص في اليوم الأوّل فقط، فراحت تحمّل المقاومة المسؤولية عن وقوع الحرب وتنقل أخباراً عن العدوّ تدّعي وجود صواريخ وأسلحة بين المنازل، إضافة إلى نقل خبر لم تصحّحه ادّعى استشهاد القيادي في المقاومة علي كركي، قبل أن يُستشهد في غارة لاحقة. وإذا أردنا تقييم المشهد الإعلامي في ظلّ الحرب، فإنّ mtv تأخذ جائزة الشهرة من دون منازع؛ رغم بعض الأخطاء على القنوات الأخرى، إلّا أنّ mtv دخلت ذاكرة اللبنانيّين في هذه الحرب على أنّها ناطقة باسم العدوّ حتّى في عزّ القصف والمجازر. نقلت سرديّة العدوّ، وبرّرت المجازر، وشاركت في الحرب النفسية على اللبنانيين وحرّضت على المقاومة، ونفت عن المقاومين وطنيّتهم وصدّهم للعدوّ، وبثّت منطق الهزيمة، وبرّأت الاحتلال إلّا مع بعض الاستثناءات القليلة، وتجاهلت السياق التاريخي، وسوّقت للتطبيع، ونقلت مقاطع مفبركة، واستحالت نافذة إعلامية للمتحدّث باسم «جيش» العدوّ، واستضافت شخصيّات تجاهلت تماماً المجازر بحقّ الأطفال والدمار الشامل لمصلحة الثناء على ما اعتبرته هذه الشخصيّات إنجازاً في القضاء على المقاومة. إعلاميّوها ارتكبوا أخطاء فادحة على الهواء، بما في ذلك ادّعاء وجود مخازن أسلحة في أماكن الغارات من دون دليل ولا تأكّد. وبلغت القناة حدّ التحريض على أماكن النزوح وزعم وجود مسلّحين بين النازحين، حتّى أنّ إعلاميّيها حرّضوا على قصف أماكن معيّنة قبل ادّعاء المظلومية بعد الهجوم عليهم، ولم ينسَ اللبنانيّون بعد تحريض إحدى الصحافيّات على «الهيئة الصحّية الإسلامية» قبل قصف مركز لها في قلب بيروت. كما حرّضت mtv ضمن «صار الوقت» على مؤسّسة «القرض الحسن» قبل أيّام من استهداف العدوّ لفروعها، وشاركت إلى جانب مواقع إلكترونية في التحريض على Whish Money عبر النقل عن صحيفة «جيروزاليم بوست» الصهيونية («الأخبار» 3/11/2024). فوق ذلك، اشترى مالك mtv، ميشال غابريال المرّ، صحيفة «نداء الوطن» بعدما كانت قد أغلقت بسبب مشكلات مالية، وضمّها إلى «إمبراطوريّته» لتبدأ بالتحريض على المقاومة في عزّ الحرب، ومن ضمنه التحريض على المسؤول الإعلامي لـ«حزب الله» الشهيد محمّد عفيف قبل أيّام من اغتياله في بيروت («الأخبار» 15/11/2024). وقد شاركت بالتحريض أيضاً mtv، التي أدّى أداؤها هذا في نهاية المطاف إلى ضمّ حملة المقاطعة القناة على لائحتها والدعوة إلى مقاطعتها مع قنوات أخرى. باختصار: mtv بدّعت!
تحوّل المشهد الإعلامي في زمن الحرب رأساً على عقب، فتسمّر اللبنانيّون على الشاشات، وانتشر المراسلون في المناطق التي تشهد قصفاً، ونقلت القنوات تحذيرات المتحدّث باسم «جيش» العدوّ التي لم تشمل كلّ المناطق المقصوفة ولم تعط وقتاً كافياً للإخلاء، عدا عن استخدامها حيناً وعدم استخدامها أحياناً كثيرة. كان البثّ المباشر يُفتح من الصباح الباكر، فيما عُرفت «الجديد» باستمرارها في كلّ ليلة في النقل المباشر من الضاحية الجنوبية، وكذلك فعلت mtv في بعض الأحيان. كما أطلقت «الجديد» برنامج «عدوان أيلول»، فيما عدّلت القنوات برامجها لاستضافة محلّلين وناشطين وسياسيّين بشكل يومي. وأكثرت mtv وLBCI من استضافة أشخاص ينقلون السردية الإسرائيلية رغم عدم شعبيّتهم، لكنّهما استضافتا أيضاً آراء مؤيّدة للمقاومة، فيما نوّعت قنوات مثل OTV و«تلفزيون لبنان» و«الجديد» بضيوفها، رغم أنّ الأخيرة درجت على مقابلة مسؤولين أميركيّين باستمرار خلال الحرب. ونقلت LBCI في بعض الأحيان مشاهد مفبركة للغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان، تبيّن في ما بعد أنّها قديمة أو مصنوعة عبر الحاسوب (CGI). وفي إحدى المرّات استمرّت القناة في ذلك حتّى بعد تأكّد عدم صحّته، إلى أن أعادت تصويب الأمر أخيراً في نشرة أخبار مسائية. وقدّمت «الجديد» خلال الحرب نشرتها الليلية إلى منتصف الليل، فيما سبّقتها LBCI إلى الحادية عشرة مساءً.
شامبانيا على شرف «الثوّار»
لم يكن أحد يتوقّع أن يأتي يوم مثل 27 أيلول. وقع ما لم يكن في الحسبان. استُشهد السيّد حسن نصرالله ومعه عدد من رفاقه وعدد هائل من المدنيّين في غارات متتالية خارقة للتحصينات على حارة حريك. لم يتأكّد الخبر حتّى اليوم التالي، فنزل كالصاعقة على اللبنانيّين. حتّى معارضوه شعروا بنوع من غياب الأمان بغيابه، وبأنّه لم يعد هناك ما يردع «إسرائيل». توحّد المشهد الإعلامي اللبناني من جديد، وراحت القنوات تبثّ مشاهد للشهيد من الأرشيف وتحلّل حول القادم. بثّت «المنار» وNBN آيات قرآنية على روح الشهيد، فيما بثّ «تلفزيون لبنان» و«الجديد» وmtv وLBCI مقاطع قديمة له، كما عرضت LBCI مقابلة أجراها معه الصحافي الشهيد جبران التويني عام 1995 («الأخبار» 2/10/2024). ولئن خرجت mtv بعض الشيء عن السرب، إلّا أنّها حاولت الموازنة بين الرسائل السياسية ودقّة الموقف. تكرّر الأمر مع استشهاد السيّد هاشم صفيّ الدين في تشرين الأوّل (أكتوبر)، فغطّت الشاشات مشاهد له من الأرشيف، وكذلك رئيس حركة «حماس» في غزّة يحيى السنوار الذي تحوّل إلى لسان الحال عالميّاً بسبب طريقة استشهاده البطولية، ولم يكن الأمر مختلفاً في الإعلام اللبناني. ومع إرسال إيران صواريخ باليستية إلى الأراضي المحتلّة ردّاً على اغتيال كيان العدوّ الشهيدَين إسماعيل هنية والسيّد حسن نصر الله، انطلق البثّ المباشر على كلّ الشاشات وتصدّرتها تحليلات الحرب الكبرى من جديد. وقلّل بعض الإعلام من شأن الردّ، لكنّ ذلك لم يدم طويلاً بعدما تبيّنت ماهية الأضرار. مجدّداً، حاول بعض الإعلام التخفيف من شأن الردّ والترويج لسردية مفادها «إيران باعت الحزب» وهي عبارة انتشرت أكثر بعدما قالها محمّد علي الحسيني في إطلالاته المثيرة للجدل بصهينتها على «العربية». أمر تكرّر عند القصف الصهيوني على طهران، فعادت التحليلات ذاتها، وضخّم بعض الإعلام وعلى رأسه mtv من حجم الضربة. ودأب الكثير من وسائل الإعلام في تلك المرحلة من الحرب على الترويج لسردية مفادها أنّ العدوّ احتلّ الأراضي اللبنانية حتّى عمق 10 كيلومترات، واستُخدمت مقاطع التدمير والنسف في قرى الحافّة الأمامية لتدعيم السردية. ومع الأسابيع الأخيرة من الحرب، تمكّنت المقاومة من استعادة زمام المبادرة بعد الضربة الكبيرة التي تلقّتها، وكبّدت العدوّ خسائر مؤلمة ولا سيّما في الصورايخ التي أصابت تلّ أبيب. ولئن نقل الإعلام بما فيه mtv عمليّات المقاومة، إلّا أنّه لم يركّز كثيراً عليها في الأسابيع الأخيرة، حتّى بدا في بعض الأحيان وكأنّ الحرب تُخاض من طرف واحد، وهذا كان الهدف؛ إظهار أنّ المقاومة مهزومة. مع توقيع اتّفاقية وقف إطلاق النار في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر)، روّجت القنوات لكون الاتّفاق مجحفاً بحقّ لبنان، ولا سيّما LBCI. ولم يتسنّ للإعلام اللبناني أخذ «استراحة محارب»، إذ إنّ الخروقات الإسرائيلية لم تتوقّف، وبعد أيّام فقط اشتعلت الأحداث في سوريا. ولئن تعاطت القنوات اللبنانية بحذر مع سيطرة الفصائل المسلّحة على حلب ثمّ باقي المدن، وأبقت على مسافة واحدة من الجميع، إلّا أنّها ما لبثت أن بدّلت لهجتها واحتفلت مع سقوط نظام «البعث» في سوريا. هكذا، ذهبت «الجديد» في جولة من داخل سوريا في الليلة الأولى بعد سقوط النظام، آخذةً مقابلات من عناصر «هيئة تحرير الشام»، واحتفلت LBCI بسقوط «إحدى أطول الديكتاتوريّات في العالم»، فيما اعتمدت mtv شعارها القديم وفتحت الشمبانيا خلال برنامج «صار الوقت» وأطلقت المفرقعات من مبنى استديوهاتها («الأخبار» 9/12/2024). واحتفلت صحف ومواقع كثيرة أيضاً، مثل «النهار» و«نداء الوطن» و«ميغافون» و«درج» و«رصيف» و«صوت بيروت إنترناشونال» وغيرها الكثير. أمّا القنوات التلفزيونية الأخرى مثل OTV و«المنار» وNBN و«تلفزيون لبنان»، فاعتمدت الصيغة الإخبارية البحت من دون أخذ طرف واضح وأشارت إلى وجهة النظر من الطرفَين، فيما ركّز الإعلام المؤيّد للمقاومة على الاحتلال الإسرائيلي المستجدّ لأراضٍ سورية وتدمير مقدّرات الجيش السوري، وهو ما لم تعره القنوات المهيمنة الكثير من الأهمّية إلّا بعد مدّة. وبرز السباق على الدخول إلى سوريا ونقل أيّ شيء يتعلّق بالسجون السورية المعروفة بارتكاباتها بعد تحرير السجناء منها، حتّى وقع المراسلون في أخطاء باستمرار، بلغتح حدّ تحوّل إحدى مراسلات mtv إلى نكتة بعدما قابلت لبنانيّاً في المستشفى على أنّه حُرّر من «سجن صيدنايا» واستمرّت لدقائق قبل أن يوضح لها أحد أقاربه على الهواء أنّه فقط أتى من لبنان ليتلقّى العلاج كونه أقلّ كلفة في سوريا. وأبت mtv إلّا أن تتوّج جهودها على مدار السنة، فأنهت العام بالتحريض على المقاومة والجامعة اللبنانية على خلفية قضية زعم وجود أسلحة المقاومة في إحدى كلّيّات الجامعة، قبل أن تنصّب نفسها حاكمة بأمر المال بعد ادّعائها على صحافيّين وتوقيفهم بسبب مواقف لهم انتقدت تغطيتها المنحازة للحرب («الأخبار» 18/12/2024). كتبنا سابقاً أنّ 2022 كان عام المفاجآت المتوقّعة، و2023 عام الصخب والسوداوية. أبى عام 2024 إلّا أن يتوّجهما بالمفاجآت غير المتوقّعة وأضعاف من الصخب والسوداوية. وكما دخلناه بصخب العام السابق وسوداويّته، نخرج منه كذلك، فيما المشهد الإعلامي تشغله خروقات العدوّ وإمعانه في قتل المدنيّين، وجلسة انتخاب رئيس الجمهورية المزمع عقدها في 9 كانون الثاني (يناير) المقبل، التي امتزج صخبها باكراً مع صخب العام المحتضر لتنهيه بنوتة عالية. كلّ عام وأنتم أنتم!