في الأيام الأولى للحرب، طلبت 27 شركة توزيع للإنترنت «ISPs»، من وزارة الاتصالات، تجميد العمل باستئجار 35% من السعات الدولية التي تستعملها لتقديم خدمة الإنترنت للمشتركين، ربطاً بانخفاض الاستهلاك في المناطق التي طاولها القصف والنزوح مثل مناطق الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية. لكن مع انتهاء العدوان، طلبت الشركات فكّ التجميد، ما دفع وزارة الاتصالات إلى الرفض بذريعة أن بعض هذه الشركات تستخدم السعات لتقديم خدمات الإنترنت غير الشرعي.
يثير هذا السلوك سؤالاً أساسياً: هل حقاً تكافح وزارة الاتصالات الإنترنت غير الشرعي، أم أن الوقائع والمؤشرات تدلّ على عكس ذلك؟ بين السطور ثمّة من يستاءل إذا كانت الوزارة ترغب فعلاً في إنهاء حالة الإنترنت غير الشرعي بالتزامن أو شرعنتها بأقصر الطرق من خلال منح «حيتان» القطاع الخاص تلزيمات لإعادة إعمار منشآت الاتصالات التي تدمّرت بفعل العدوان.
من أبرز المؤشرات على أن وزارة الاتصالات لم تقم بواجبها، سواء جهلاً أو عمداً، تجاه مكافحة شبكات الإنترنت غير الشرعي، هو ما يرد في التقرير الأخير الصادر عن ديوان المحاسبة.
فالديوان يتّهمها مباشرة بأنها تلكأت عن تنفيذ المرسوم 9458 الصادر في تموز من عام 2022. يقول الديوان إنّ تبرير الوزارة «إخفاقها في ضبط الشبكات المخالفة»، سببه أنه «تعذّر على الإدارة عملياً وقانونياً استكمال عملية الضبط والإدارة بغياب عقود الصيانة» (هذه العقود نصّ عليها المرسوم 9458 ولا سيما المادة 16 منه، التي يرى الديوان أنها هدفت إلى تنظيم وضعية شبكات اتصالات أنشأتها جهات غير مرخص لها، أي وضع قواعد استثنائية لوضع غير قانوني وتنظيمه على نحو يضمن استمرارية تقديمها الخدمة). لذا، يرى الديوان أنه «يجدر عدم الأخذ بقول وزير الاتصالات، طالما أن هذا القول يؤدي عملياً إلى مخالفة ساطعة للمرسوم 9458 وإلى قلب التصوّر الذي نصّت عليه المادة 16 من المرسوم في هذا الخصوص ليجعل عقود الصيانة سابقة لضبط المخالفات وليس العكس (وهو وضع يشبه وضع العربة أمام الحصان)».
وفنّد الديوان في قراره الرقم 177/ر. م. والمؤلّف من 7 فقرات، كل مخالفات الوزارة في ملف الإنترنت غير الشرعي.
وأبرزها أن الوزارة لم تلتزم بمهلة الستة أشهر لضبط الشبكات غير الشرعية التي نصّ عليها المرسوم 9458، حتى إن إحصاء الشبكات المخالفة كان ناقصاً بحسب الديوان، إذ إنه من أصل 638 شبكة غير شرعية، كوّنت وزارة الاتصالات على مدى سنتين 106 ملفات فقط. ويظهر تقصير الوزارة أكثر في الامتناع عن تكليف أصحاب هذه الشبكات بأيّ رسوم، أو وضع اليد عليها، ما حرم الخزينة من موارد حتمية، ولم تُحَل أيّ من الشبكات المضبوطة إلى القضاء للبتّ بأمرها.
لذا، أعرب الديوان عن قلقه من «تأبيد المخالفة واستمراريتها»، ومن أن «تتحول أحكام المرسوم 9458 بخصوص الشبكات غير الشرعية، من خريطة طريق لإرساء الشرعية، إلى أحكام تضع خريطة طريق للتطبيع مع اللادولة واللاشرعية والخارجين عن القانون».
وأوصى الديوان بـ«إعطاء هيئة أوجيرو دوراً تشاركياً، فاعلاً، ومؤثراً في عمليات صيانة الشبكات»، ورفض تصرفات وزارة الاتصالات بحقّ الهيئة، واصفاً إياها بـ«التهميش».
كما أشار على وزارة الاتصالات بـ«ضبط سائر الشبكات المخالفة من دون استثناء، وإحالة المخالفين إلى القضاء، وضمان استمرارية وصول خدمة الإنترنت للمواطنين مع تكليف أصحاب الشبكات المخالفة الرسوم والمبالغ المالية المحدّدة في المرسوم 9458». وفي حال عدم استجابة أصحاب شبكات الإنترنت غير الشرعي لطلبات وزارة الاتصالات، فقد أوصى ديوان المحاسبة بـ«خفض سعات الإنترنت التي يحصلون عليها بما يتناسب مع عدد المشتركين، بالتعاون مع أوجيرو التي تمتلك تقديرات بأعداد المشتركين».
حين استُدعيَ وزير الاتصالات جوني القرم إلى الديوان لأخذ إفادته بشأن هذا الموضوع، ردّ بأن «الرسوم التي ستستوفى من موزعي الإنترنت غير الشرعيين ستكون حكماً لمصلحة خزينة الدولة، وستقوم هيئة أوجيرو بإعداد الفواتير المترتبة عليهم، وإحصاء أعداد المشتركين لديهم». لكن الديوان رأى في ردّ القرم التفافاً على أصل الموضوع، معتبراً أن العقد الرضائي (هو العقد المفترض أن توقّعه الوزارة مع شبكات الإنترنت غير الشرعي بموجب المادة 16، إذ إن المسألة كلها تتمحور حول تطبيق آليات المرسوم؛ وأبرزها العقد الرضائي) «خارجاً عن القواعد العلمية والموضوعية ذات الصلة بالإدارة الرشيدة للمال العام».
فلو التزمت وزارة الاتصالات بمهلة الستة أشهر لترتيب وضع الشبكات المخالفة «لكان ممكناً التعاقد قانونياً مع مشغلي شبكات الاتصالات حتى كانون الأول من عام 2025».
لذا، يصف الديوان تصرّفات القرم في معالجة الشبكات غير الشرعية بـ«غير الجدّية، والتردّد، والاستنسابية، وازدواجية المعايير». وما يؤكّد هذه الصفات، بحسب الديوان، إصدار القرم القرار التطبيقي الرقم 5440/1 للمرسوم 9458 بعد سنة وثلاثة أشهر من تاريخ نفاذ المرسوم.
تستنتج مصادر مطلعة، من مسألتَي: تجميد السعات ورفض الوزارة إعادتها لشركات موزّعي الخدمات، ومن تحقيقات ديوان المحاسبة، أن الهدف في وزارة الاتصالات يكمن في تمكين مجموعة محدّدة من الشركات من وضع اليد على القطاع وليس زيادة حصّة الدولة في استملاك الشبكات غير الشرعية.
تمثّل هذه الشبكة حصّة سوقية ضخمة، ومنذ أن بدأ العمل على «تشريع» الشبكات غير الشرعية بالطريقة التي تنفذها وزارة الاتصالات، بدأت حصّة الدولة تنخفض من السوق لحساب الشركات الكبيرة.
من لم يخضع من الشركات الصغيرة لن يكون بإمكانه استرداد حصّته السوقية السابقة من خلال فكّ تجميد السعات الدولية التي كان يؤجرها بشكل غير شرعي، إنما بموازاة ذلك يعبّر مسؤولون في رئاسة الحكومة ووزارة الاتصالات عن أن الدولة لا ترغب في إنفاق أي قرش لترميم الشبكات المتضررة من العدوان الإسرائيلي وأنه يمكن تلزيمها للقطاع الخاص. هكذا تحوّل الخلاف حول الحصص السوقية (كانت الشبكات غير الشرعية تستحوذ على حصّة وزانة) إلى مشروع للخصخصة.
مليارات ليرة
أي ما يوازي 10 ملايين دولار هي قيمة المبالغ المتراكمة لمصلحة وزارة الاتصالات على القطاع الخاص، علماً أن 708 هو عدد الفواتير غير المدفوعة لوزارة الاتصالات
تقاعس عن توجيه الإنذارات
تأخرت وزارة الاتصالات في إصدار إنذارات لتسديد الاشتراكات المتوجبة على شركات توزيع الإنترنت، سواء التي تمارس نشاطاً عبر شبكات شرعية أو غير شرعية، وعلى شركات القطاع الخاص والمؤسسات الدولية والمحلية التي تستأجر سعات دولية من الوزارة لتشغيل خدمات الإنترنت لديها.
ليس هناك أيّ مبرّر لتأخير الوزارة. وبحسب اللوائح الصادرة عن المديرية العامة للاستثمار والصيانة، تشمل الإنذارات 106 مؤسسات، من بينها اليونيفل مثلاً التي يترتّب عليها فواتير متراكمة بقيمة مليارين و337 مليون ليرة، وتلفزيون المستقبل الذي تتراكم عليه 129 فاتورة بقيمة إجمالية تبلغ 90 مليون ليرة. وتبلغ المستحقات المتراكمة على القطاع الخاص والمؤسسات (إعلامية، جامعات، مستشفيات، سفارات…) نحو 16.5 مليار ليرة، أما تلك المترتّبة على شركات توزيع الإنترنت المعروفة بـ«ISP» فتبلغ قيمتها 886 مليار ليرة.
كريدية: نحتاج إلى تسعيرة جديدة للقطاع الخاص
بعد اطّلاعه على قرار ديوان المحاسبة، أرسل المدير العام لهيئة أوجيرو، عماد كريدية، كتاباً إلى وزير الاتصالات جوني القرم، أوصى فيه بـ«استكمال عملية ضبط الشبكات المنشأة خلافاً للقانون، وإحالتها على القضاء»، طالباً من كريدية التعاون مع الأجهزة الأمنية بهدف «الدخول إلى مناطق وجود موزّعي الإنترنت غير الشرعي المضبوطين، وغير المضبوطين»، لافتاً إلى ضرورة إصدار الحكومة مراسيم تتلاءم مع استهلاك الإنترنت لكلّ شركة خاصة مرخّصة، أو غير مرخّصة.