أخبار لبنان

الياس جرادة: من المقاومة… وإلى المقاومة يعود

الياس جرادة ليس واحداً هو كومةٌ من الشخصيّات المنسكبة في رجلٍ واحد. لا يُمكن حصره بصفةٍ واحدة، تماماً كما لا يُمكن «خنقه» برؤيةٍ سياسيّة واحدة هو الداعي إلى أهميّة الاستماع إلى الخصوم والتّحاور معهم مهما اشتدّ خلافه معهم.

لم ينجرف إلى تيّار سياسي ولم يتقيّد بحزبٍ، لذلك يراه البعض «يلهو» بالسياسة ويقفز من جبهةٍ أُخرى فيما لا يرى في الأمر «تلوّناً» بقدر ما أنّه اجتهادات قائمة على انتقاء من كلّ حزبٍ فكرة ومن كل شخصيّة نظرة، حتّى يخرج بمنظوره الخاص النّابع من قناعاته باعتباره متحرّراً من الحسابات؛ فلا قيْد سياسيّ ولا أغلال ماديّة.

وعليه، في أرشيف «طائر السياسة» كدسات من الانتقادات على مواقف جريئة أو زيارات يُحلّق جرادة في أماكن لا يُمكن توقّعها، وفي الكثير من الأحيان لا يعود منها رغم الحملات.

الرّجل المسالم يتخلى عن الشخصانيّة السياسيّة ليُحاور خصومه مؤمناً بأنّ «الإقناع مواجهة»، إلا أنّ هذه الوداعة سُرعان ما تتبدّد عندما يتعلّق الأمر بالعدو الصهيوني. يخلع «الكرافات» ويُصبح مُقاتلاً، كما فعل العام الماضي، عندما توجّه إلى الحدود اللبنانية – الفلسطينيّة لدعم ابن بلدة كفرشوبا إسماعيل ناصر الذي تصدّى بجسده لجرافة إسرائيلية كبيرة، كانت تقوم بأعمال تجريف في منطقة خط الانسحاب.

يومها، وقف جرادة في وجه مجموعة من جنود الاحتلال التي صوّبت أسلحتها باتّجاهه، ولم تنفع دعوات المقرّبين منه بالتراجع. كان ردّه حاسماً: «هذه أرضي، وهو مغتصب الأرض». انفعال نائب المنطقة لم يكن موقفاً فحسب، بل وصل الأمر إلى حد الطّلب من مرافقه التّابع للمديرية العامّة لأمن الدّولة أن يُعطيه سلاحه الموجود في السيّارة!

هكذا، يعرف جرادة دائماً كيف يخلع أثوابه، وكيف يتنقّل بين الأعمال التي امتهنها لتكون مهنته الخفيّة دائماً: مُقاوم. يوماً مُقاوماً على الحدود يقف في وجه مجموعة من الصهاينة، ويوماً في غرف العمليّات حيث يلتقط مشرطه مُحاولاً إعادة الضوء إلى عيونٍ استهدفها العدو. بالأمس، بكى الرّجل الصلب من هوْل ما شاهد على الأسرّة البيضاء قد تكون عاطفته سبقته، إلا أن ما يقوله المقرّبون منه أنّه لا يبكي إلا من يحب، وهو «لم يبك إلا لأنّه يحبّ المقاومة والمقاومين».

هذا الحب دفعه إلى الطّلب من صاحب «مركز بيروت التخصصي للعيون والليزك» إلى فتح أبواب المركز للمصابين فور وقوع جريمة التفجيرات. 3 أيّام كاملة قضاها الرّجل في المستشفى، حيث أجرى أكثر من 25 عمليّة جراحيّة وكشف على العديد من المصابين. وصل «الحكيم» الليل بالنّهار ليتنقّل بصلابةٍ بين الجرحى مهوّناً بحيويّته الفائضة عليهم وعلى أهاليهم. وعندما سمع بوجود جرحى في «مستشفى الشهيد راغب حرب الجامعي»سارع إلى التوجّه إلى تول الجنوبية، حيث لا يزال يُجري العمليّات الجراحيّة فيه.

من الجنوب إلى البقاع إلى أميركا

«الضمير المتنقّل» من غرفةٍ إلى أُخرى، ليس سلوكاً جديداً على الرجل الذي يلبي دوماً نداء الإنسانيّة، خصوصاً حينما يكون الأمر مرتبطاً بالمقاومة، إذ إنّ «الحكيم» سُرعان ما يستعيد ذكريات من النضال في منزلٍ صُبغت جدرانه باللون الأحمر. في أحد أركانه، كان الطّفل يجلس بالقرب من جدّته، بيدٍ تخيط علم الحزب الشيوعي وباليد الأُخرى تربّت على أكتاف أحفادها، مشدّدةً على ضرورة المقاومة ومركزيّة القضيّة الفلسطينيّة. رمز المقاومات في إبل السقي كانت واحدة من رموز «السنديانة الحمراء» التي لطالما أثّرت في محيطها. في هذا المنزل الريفي أيضاً، كان الصبي الصغير ينتظر في إحدى الغرف عودة شقيقه عمّار من بيروت حيث ساهم في إطلاق «جمول» وشارك في الأعمال العسكريّة ضدّ العدو الصهيوني. ذهب عمّار في مهمّة أمنية خارج البلاد وعاد منها شيخاً مُعمّماً، إلا أنّ سلام ويوسف وجرجس.. أبقوا الأصابع على الزناد، حتّى أُسر الياس وجرجس في معتقل الخيام، الأوّل بقي فيه لمدّة قاربت الـ8 أشهر، فيما بقي جرجس حبيس الخيام لأكثر من 3 سنوات.

هكذا، هجّر عملاء لحد والجنود الإسرائيليون عائلة العسكري في الجيش اللبناني، فارس جرادة، من إبل السقي إلى جب جنين البقاعيّة. فارس الذي لم يكن لديه سوى راتبه من السلك العسكري، وافق على أن يُكمل أولاده الصّغار العمل في الزراعة في البقاع الغربي، بعدما كانوا يعتاشون منها في الجنوب. حقول البندورة وكروم العنب كانت من حصّة الياس، الذي ازداد شغفاً بالأرض وتعلّقاً بزواياها.

الألم الذي اعتصره من جراء ترك جب جنين للانتقال إلى بيروت، سُرعان ما عوّضه بحبّه لإكمال تعليمه، فالتحق مع شقيقته هند بالجامعة اللبنانيّة إلا أن حلمه لم يكتمل إذ إنّ سوء الأوضاع الماليّة دفعه إلى السفر إلى السعوديّة للعمل، لكن بقي التعلم يدغدغ أحلامه، وتمكّن من الحصول على منحة من «جامعة هارفرد» للتخصص في جراحة العيون. لم يكن الياس طالباً عادياً، بل تمكّن في سنوات قليلة من الاستحصال على أكثر من براءة اختراع في مجال زراعة قرنيّة العيْن، ومن اكتشاف علاجات لمرض العمى من الفئة الخامسة، وساهم في إضافة مُعادلات جديدة لنجاح العمليّات عبر تقنيّة «لايزك».

العودة إلى إبل السقي

شهادات النّجاح والابتكارات، لم تجعله يحيد عن فكرة العودة إلى وطنه حتّى يرجع إلى الجذور ويُرجع ابنتيه إليها. سفره من أميركا إلى دبي للعمل في أحد مستشفياتها، سرّع في قرار العودة. خلفه، ترك كلّ شيء وعاد إلى إبل السّقي في نهاية 2009، عاملاً في «مركز بيروت التخصصي للعيون والليزك». عينا حكيم العيون بقيتا شاخصتين إلى الأرض التي عاد إليها فلاحاً، تماماً كما كان منذ عشرات السنوات، ليفتتح مشروعاً لزراعة العنب والبطيخ والأفوكا… لم تُفلح «بلاد العم سام» من تغيير الشاب العصامي، حتّى في أبسط تفاصيله؛ شعرٌ منكش وحيويّة شبابيّة لابن الخمسين، كما لم تنسه اللكنة الجنوبيّة، هو الذي يصرّ على نطق حرفي «القاف» و«الظاء» كأبناء قريته.

لم يحوّل جرادة الطب إلى مهنةٍ تجمع له ثروة، بل كانت بالنسبة إليه دائماً رسالة؛ رسالة في بناء العلاقات مع مرضاه وفي تقديم الطبابة مجاناً في أغلب الأحيان، ووصل به الأمر إلى حدّ الطلب من مرضاه في الخارج أن يأتوا إلى لبنان لأنّه يؤمن بأن في ذلك منفعة للدورة الاقتصاديّة!

في هذه العودة، التصق جرادة أكثر بإبل السقي وناسها. هنا، يسهر مع أبنائها للعب الورق حتّى الفجر أو ليُناقش في فكرة أو حتّى ليطبخ لهم ما يتقنه من الأكلات، إلا أنّ الأهم هو القيام برياضة المشي لأكثر من 20 كيلومتراً، حتّى صار ملمّاً بكل شجرة زيتون في المنطقة وموسم قطاف كلّ واحدة منها، إضافة إلى ممارسة هوايته في صيْد البط، قبل أن يُملي عليه «ضميره البيئي» إنشاء بركة للبط كتعويض عن تلك التي يتصيّدها. صحيح أنّ لـ«طبيب العيون» حلقة من المقرّبين ساهمت في الضغط عليه لتقديم ترشيحه، إلا أنه يفتقد إلى هؤلاء وإلى كثيرين غيرهم عندما يتعلّق الأمر بمواكبته في المشي، إذ سُرعان ما ينسحب الأصدقاء من «مشروع القصاص» ليبقى وحده في درب الجلجلة!

الأخبار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى