استطاعت حماس، ومعها بقية فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، أن تلحق بالكيان الصهيوني هزيمة مدوية في الهجوم الذي شنته عليه يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
كان يمكن للكيان استيعاب النتائج المترتبة على هذا الهجوم، رغم كل ما أدى إليه من خسائر مادية ومعنوية غير مسبوقة، لو كان قد امتلك ما يكفي من الشجاعة للاعتراف بالهزيمة في معركة، لكنه لم يخسر الحرب بعد، غير أن عنجهية نتنياهو دفعته إلى المبالغة كثيراً في رد الفعل، ما تسبب بارتكابه المزيد من الأخطاء التي قد تؤدي إلى خسارة الحرب، وإلى انهيار المشروع الصهيوني برمته، فقد تصور نتنياهو أن عملية “طوفان الأقصى” تتيح له فرصة ذهبية لإعادة احتلال القطاع، وربما لضم أجزاء واسعة من الضفة أيضاً، وخصوصاً إذا ما تمكن من القضاء على حماس في القطاع وعلى جيوب المقاومة في الضفة.
اليوم، وبعد 10 أشهر من حرب إبادة جماعية قرر شنها على القطاع، بالتوازي مع حرب اغتيالات ومطاردة ساخنة قرر شنها على بؤر المقاومة في الضفة، يظهر عجز نتنياهو عن تحقيق أي من الأهداف التي سعى إليها، فهو لم يتمكن بعد من كسر شوكة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة في القطاع، فكيف يقدر على إعادة احتلاله! وهو لم يتمكن بعد من القضاء على بؤر المقاومة المسلحة في الضفة، رغم قيامه باغتيال المئات واعتقال أكثر من عشرة آلاف، فكيف ينجح في إحكام قبضته على الضفة وضم أجزاء منها!
وفي ظل هذا العجز، بدأت تتبلور تدريجياً استراتيجيتان، إحداهما إسرائيلية مدعومة أميركياً، والأخرى فلسطينية مدعومة من محور المقاومة، لكنهما يختلفان من حيث الدوافع والأهداف ودرجة التماسك الداخلي، فالاستراتيجية الإسرائيلية هي في حقيقة أمرها من صنع رجل تحركه دوافع تتعلق بمصالح شخصية بأكثر مما تتعلق بمصالح وطنية، وأقصد نتنياهو بالطبع، ومن ثم تعترضها عقبات كثيرة، ليس على صعيد الداخل فحسب، إنما أيضاً على صعيد العلاقة مع الحليف الأميركي أيضاً. أما الاستراتيجية الفلسطينية، فتحركها دوافع ومصالح متباينة، ليس بسبب خصوصية الوضع الفلسطيني فحسب، إنما أيضاً بسبب تركيبة محور المقاومة نفسه.
والواقع أننا إذا أعملنا النظر في سلوك نتنياهو، وخصوصاً منذ طوفان الأقصى، فسوف يسهل علينا اكتشاف أن نمط إدراكه العقيدي لا يسمح له باستيعاب فكرة الهزيمة، وخصوصاً إذا كان المنتصر منظمة فلسطينية في حجم حماس، ما يفسر حرصه الشديد على مواصلة الحرب حتى “النصر المطلق”.
ولأنه يعتقد أن الموافقة على الوقف الدائم لإطلاق النار سوف يفسر على أنه قبول بالهزيمة، بل وقد يؤدي أيضاً إلى تفكك وانهيار حكومته وتعريضه للملاحقة القضائية بتهمة الفساد، فمن الطبيعي أن يسعى لعرقلة الجهود الرامية إلى وقف القتال، وخصوصاً إذا ارتبط بفتح آفاق جديدة أمام تسوية للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، غير أن موقف نتنياهو يصطدم بعقبتين، الأولى من الداخل الإسرائيلي نفسه، والثانية من حليفه الأميركي.
على الصعيد الداخلي، بدأت المعارضة لنهجه في إدارة الأزمة تتصاعد تحت تأثير عاملين؛ الأول: إدراك أسر المحتجزين في قطاع غزة أن الإفراج عن ذويهم لم يعد يشكل أولوية لدى نتنياهو الذي بات مستعداً للتضحية بهم من أجل الاستمرار في السلطة، والثاني: إدراك شرائح متزايدة من النخبة السياسية بأنه المسؤول الرئيسي عن هزيمة 7 تشرين، وأنه بات يعلي من مصالحه الشخصية على حساب مصالح الوطن نفسه.
أما على صعيد العلاقة مع الولايات المتحدة، فلم تكن إدارة بايدن على استعداد لتبني رؤية نتنياهو حول “اليوم التالي”، رغم التزامها المطلق بأمن الكيان واستعدادها التام لمساعدته على القضاء المبرم على حماس وشطبها من المعادلة الفلسطينية.
للخروج من المأزق الذي أدخل نفسه فيه، لم يكفّ نتنياهو عن محاولاته الرامية إلى توسيع نطاق الحرب، أملاً في خلط الأوراق، وسعياً لاستدراج الولايات المتحدة للدخول في حرب ضد إيران التي يعتبرها رأس الأفعى؛ ففي 1 نيسان/أبريل الماضي، أمر بشن هجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق راح ضحيته عدد كبير من ضباط الحرس الثوري، لكنه سرعان ما اكتشف أن إدارة بايدن ليست مستعدة للانزلاق نحو هاوية الصدام المباشر مع إيران.
صحيح أنها أبدت استعدادها للدفاع عن الكيان في حال تعرضه للخطر، وهو ما تأكد بالفعل حين شاركت مع عدد من دول المنطقة في صد الهجوم المكثف الذي شنته إيران رداً على تدمير قنصليتها في دمشق، لكنها لم تكن مستعدة لتشجيع الكيان على التمادي في استفزازاته تجاه إيران، وهو ما تأكد بالفعل حين تمكنت من إلزامه بالامتناع عن الرد على الهجوم الإيراني بهجوم مضاد واسع النطاق، لكن ها هو نتنياهو يعاود الكرة من جديد، بافتعال أزمة مع حزب الله هذه المرة، ويبدو أنه حصل على موافقة وغطاء من جانب إدارة بايدن أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن؛ فمنذ أيام قليلة سقط صاروخ على قرية مجدل شمس في الجولان المحتلة، راح ضحيته 12 طفلاً.
ولم يكتف نتنياهو باتهام حزب الله بتعمد إطلاقه، إنما هدد أيضاً برد موجع يكسر قواعد الاشتباك القائمة حالياً، وهو ما تم بالفعل عبر إغارة الكيان على الضاحية الجنوبية لبيروت واستهداف المجاهد الكبير فؤاد شكر الذي قيل إنه استشهد ومعه 3 آخرين، إضافة سقوط أكثر من 70 جريحاً.
ولم تكد تمضِ ساعات قليلة على هذا الهجوم المروع حتى تم الإعلان عن اغتيال القائد الفلسطيني إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وفي قلب طهران نفسها، رأس محور المقاومة، ما يؤكد أن نتنياهو ما زال في رحلة البحث عن “صورة انتصار”، ربما كبديل لعجزه عن الحصول على “النصر المطلق” الذي بحث عنه من دون جدوى طوال الأشهر العشرة المنصرمة.
أما الاستراتيجية الفلسطينية المدعومة من محور المقاومة، فيلاحظ أنها تتحرك وفق منطق ودوافع مختلفة، فلم يكن هدف حماس، حين قررت شن عملية “طوفان الأقصى” منفردة، تحرير فلسطين أو إلحاق هزيمة شاملة ونهائية بالكيان، إنما إثبات أن الشعب الفلسطيني لن يستسلم أو يستكين للاحتلال الإسرائيلي، وأيضاً لأسر ما يكفي من الجنود والمستوطنين الإسرائيليين لمقايضتهم بآلاف الأسرى الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية.
ولأن حماس كانت تتحسب في الوقت نفسه لاحتمال أن يأتي رد الفعل الصهيوني منفلتاً ومتحرراً من كل القيود الأخلاقية والقانونية، فمن الواضح أنها، ومعها بقية فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة في القطاع، استعدت لمعركة طويلة الأجل، وهو ما نجحت فيه بامتياز، بدليل صمودها في وجه آلة الحرب الجهنمية المدعومة أميركياً لعشرة أشهر حتى الآن، وهي أطول حرب في تاريخ الصراع الممتد مع المشروع الصهيوني.
ومع ذلك، فقد كان من الصعب أن تظل هذه الجولة من الصراع المسلح محصورة في النطاق الفلسطيني الصهيوني الضيق، ومن ثم سرعان ما تحولت تدريجياً إلى صراع مسلح بين الكيان الصهيوني من ناحية، ومحور المقاومة في المنطقة من ناحية أخرى.
كان السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، أول من تنبه إلى خطورة ما جرى يوم 7 تشرين الأول، وبالتالي تأثيراته المحتملة في الصعيد الجيوسياسي، سواء من حيث ضخامة ما حققته حماس من إنجاز تاريخي في هذا اليوم، وهو إنجاز يتعين الحفاظ والبناء عليه أو من حيث خطورة ردود الأفعال المتوقعة من جانب الكيان الصهيوني وحلفائه الغربيين، والتي يتعين الحد من قوة اندفاعها.
لذلك، كان حزب الله هو أول من بادر بتقديم مساندة عسكرية للقطاع عبر فتح الجبهة اللبنانية للاشتباك المسلح واليومي مع العدو الصهيوني، وذلك منذ يوم 8 تشرين الأول وحتى الآن.
لم يكن نصر الله مدفوعاً في مسلكه هذا بمشاعر تضامن مع شعب عربي مظلوم فحسب، إنما أيضاً برؤية استراتيجية عميقة تدرك أن رد الفعل الصهيوني والأميركي سيكون منفلتاً بالضرورة، وبالتالي قد يطال محور المقاومة ككل، ما يلقي على الأخير مسؤولية كبرى لحماية المقاومة الفلسطينية والحيلولة دون تصفيتها.
ولا شك في أن حزب الله نجح في فرض قواعد اشتباك جديدة على الكيان الصهيوني، وأجبره على حشد ثلث قواته المقاتلة على الجبهة الشمالية، وأجبر ما يقارب 100 ألف مستوطن على النزوح إلى وسط الكيان، بكل ما يترتب على هذا النزوح من أعباء اقتصادية ونفسية، ناهيك بالخسائر في المعدات والأرواح.
دخول حزب الله إلى ساحة المعركة، وفق حسابات وقواعد اشتباك دقيقة، هيأ الأجواء لانخراط بقية مكونات محور المقاومة، وخصوصاً اليمنية منها والعراقية. ولا يتسع المقام هنا للحديث تفصيلاً عن إنجازات محور المقاومة، غير أن الواجب يقتضي أن أشيد هنا بما قدمه أنصار الله اليمنيون على وجه الخصوص، لأن إسهاماتهم لم تكن ضخمة ومقدرة فحسب، بل كانت جريئة ومدهشة في الوقت نفسه.
صحيح أن الكيان الصهيوني حاول خلال الأيام القليلة الماضية إثبات أنه قادر على مواجهة كل التحديات والتصدي لكل مكونات محور المقاومة، بل وتغيير قواعد الاشتباك على كل الجبهات، وذلك عبر إقدامه على الإغارة على مخازن النفط في الحديدة، واغتيال المجاهد الكبير فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية، وأخيراً اغتيال القائد الفلسطيني البارز إسماعيل هنية في قلب طهران، غير أن هذه العمليات الاستعراضية لن تحقق له النصر، وخصوصاً أن رد محور المقاومة قادم لا محالة، وسوف يكون مؤثراً بلا جدال.
لقد دخل الصراع مع العدو الصهيوني مرحلة جديدة تتطلب من جميع قوى المقاومة وحدة الصف والثبات، فليس من المستبعد أبداً أن تكون هذه المرحلة هي البداية الحقيقية نحو معركة التحرير الآتية حتماً لا ريب فيها.