التنافس القائم بين فرنسا من جهة والولايات المتحدة وبريطانيا من جهة أخرى، يبدو ظاهريًا وكأنه تتويج لمساعٍ هدفها حماية لبنان وسيادته وضمان استقراره.
لكنّ المداولات والأوراق التي يتم إعدادها ورميها فوق طاولات الاجتماعات، لا تعكس سوى هدف واحد لدى كلّ المتنافسين: كيف نضمن أمن إسرائيل؟في لبنان، يتّكل الغربيون على ما يعتقدون أنه تناقض جوهري بين القوى اللبنانية حول الموقف مما يجري على الجبهة الجنوبية.
لكنّ الحيرة تعتري الدبلوماسية الغربية. فهي، من جهة، لا تنوي استفزاز حزب الله وتريد إبقاء القنوات مفتوحة معه، سواء مباشرة كما يفعل الفرنسيون، أو بصورة غير مباشرة كما يفعل الأميركيون والبريطانيون.
حتّى إن أعتى داعمي العدو، الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتين، ردّد في أكثر من مناسبة أن التسوية المنشودة تتطلّب عدم استفزاز الحزب داخليًا، وهو ما تحوّل إلى “تعليمة” انعكست خفضًا في سقف مواقف خصوم المقاومة.
وحتّى عندما تبدّل الأمر قليلًا، جاءت النتيجة معاكسة، كما بعد اجتماع معراب الأخير.
على المستوى الرسمي، يتولى الرئيس نبيه بري القسم الأساسي من المفاوضات، مستندًا إلى تفويض من حزب الله، إضافة إلى تفويض مختلف لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الخارجية عبد الله بوحبيب.
والخلاصة أن الموقف الرسمي للدولة اللبنانية لا تتم صياغته بعيدًا عن التنسيق المفتوح بين حزب الله وهذه الجهات الثلاث.
ورغم أن الحزب لا يزال يستقبل موفدين فرنسيين، وآخرين غربيين وأمميين يعرضون خدماتهم، ولا يقفل الباب أمام الفرنسيين، إلا أنه يعرف أن المفتاح لا يزال بيد الأميركيين. وموقفه النهائي والحاسم أن لا نقاش حول وضع الجبهة اللبنانية إلا بعد إعلان فصائل المقاومة في فلسطين (وليس أي أحد آخر) انتهاء الحرب على غزّة.
ورقة هوكشتين وأبراج بريطانيا
بحسب مصادر معنية بالمفاوضات الجارية، فإن هوكشتين الذي زار لبنان أقل مما زار “إسرائيل” منذ اندلاع المواجهات، بات على قناعة بأن الحل في لبنان لن ينطلق قبل وقف إطلاق النار في غزّة. وهو يعمل وفق منطق إعداد آلية لمعالجة الوضع تكون جاهزة للتنفيذ بمجرد إعلان وقف الحرب في غزّة.
وتقوم مناورة هوكشتين وغيره من داعمي “إسرائيل”، على انتزاع موافقة لبنانية على إجراءات مباشرة في حال الإعلان عن هدنة في القطاع، على قاعدة أن تتحول هذه الإجراءات إلى خطة غير قابلة للخرق، ما يعني أنه في حال استأنف العدوّ حربه على غزّة، لا يمكن فتح جبهة الإسناد اللبنانية مجددًا.
وانتهت أفكار الموفد الأميركي أخيرًا في ورقة وُزّعت على إطار ضيق جدًا، وأحيطت تفاصيلها بكتمان شديد. ويتحدث من اطّلعوا عليها عن نقاط شديدة الخطورة، تتجاوز طلب سحب قوات المقاومة، وعلى رأسها قوة الرضوان، بين 7 و10 كيلومترات شمال الحدود، إلى لائحة إجراءات ميدانية محدّدة تتعلق بطريقة انتشار الجيش وضمان عدم بقاء أي وجود لبنى تحتية أو لمقاتلين من المقاومة تحت أي غطاء، مع تعزيز دور القوات الدولية العاملة في الجنوب، بما يسمح لها بقمع أي حركة عسكرية.
بمعنى آخر، إزالة أي تهديد لأمن “إسرائيل” التي تريد ضمانات تسمح لها بإعادة المستوطنين إلى مستعمرات الشمال. أما ما تحدّث عنه هوكشتين سابقًا عن إقفال ملف “النزاع الحدودي”، فقد أصبح يقول صراحة إن ذلك لا يشمل مزارع شبعا المحتلة التي يبقى مصيرها رهن تطوّرات تخص في جانب منها سورية، وإن الأمر يقتصر على تسوية النزاع على نقاط برية من بينها نقطة B1 عند رأس الناقورة أو معالجة تحرير الجزء الشمالي من قرية الغجر.
وفد بريطاني في بيروت سرًا
ولا تكتفي واشنطن بما تطرحه من متطلبات على الأرض، بل تحاول تنفيذ مناورات استطلاعية عبر حليفتها الأبرز، بريطانيا، التي أعدّت بدورها مقترحًا لفرض إجراءات رقابية على الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، وحاولت تمرير أفكاره عبر اتّصالات جانبية مع الجيش اللبناني، قبل أن تقرر إبلاغها إلى الحكومة اللبنانية رسميًا.
فقبل نحو أسبوعين، زار بيروت سرًا وفد رسمي بريطاني ضمّ مسؤولًا عن الشرق الأوسط في وزارة الخارجية وضابطًا رفيعًا من الاستخبارات الخارجية البريطانية، والتقى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وقائد الجيش العماد جوزيف عون ومدير الاستخبارات العميد طوني قهوجي.
وعلمت “الأخبار” أن الوفد أثار مع رئيس الحكومة ملف أبراج المراقبة على الحدود الجنوبية، وأبلغه بلهجة فوقية أن “إقامة الأبراج، واتّخاذ إجراءات على طول الحدود هما شرط “إسرائيل” لوقف الحرب مع لبنان”.
ووفق ما تسرّب عن لقاءات الوفد، طلبت لندن من الجيش اللبناني الموافقة على خطة لإقامة أبراج مراقبة على طول الحدود مع فلسطين المحتلة، مماثلة لتلك القائمة على الحدود الشرقية والشمالية مع سورية. وبحسب المقترح البريطاني، فإن خارطة نشر الأبراج تفرض الآتي:
أولًا: إن نصب الأبراج مرتبط بالجغرافيا الجنوبية، بهدف تأمين تغطية لكل الحدود من رأس الناقورة حتّى مزارع شبعا، على أن لا تفصل بينها مسافات موحّدة، بل يُترك الأمر لمتطلبات التغطية التقنية، حتّى لو اقتضى ذلك إقامة أبراج قريبة، بعضها من بعض.
ثانيًا: يقيم الجيش اللبناني مواقع عسكرية محصّنة على طول الحدود، ويكون كلّ برج من أبراج المراقبة داخل أحد هذه المواقع، ما يعني أن الأبراج ستكون حتمًا داخل الأراضي اللبنانية، كما أن الكاميرات التي سيتم زرعها فيها ستكون موجّهة نحو الحدود اللبنانية بما يضمن عدم حصول أي تسلل عبر الحدود نحو فلسطين المحتلة.
ثالثًا: يعدّ الجيش اللبناني خطة لنشر 15 ألف عسكري في المنطقة الحدودية، ويتكفّل بإزالة ومنع أي نوع من أنواع المظاهر العسكرية لأي جهة غير الجيش أو قوى الأمن الداخلي.
رابعًا: يوفّر “المجتمع الدولي” مساعدات للجيش اللبناني في حال التزم بهذه الخطة، وتكون المساعدات موجّهة حصرًا للقوات العاملة على طول الحدود مع لبنان.
فرنسا: التفتوا إلينا!
وفي وقت يتناغم الجانبان البريطاني والأميركي بتنسيق رفيع المستوى مع “إسرائيل”، تطل فرنسا برأسها ساعية إلى دور وحضور في الميدان. ورغم أن باريس تدرك أن الجميع يعرف أن قدرتها على الضغط على “إسرائيل” محدودة جدًا، وبالتالي لا يُعوّل عليها لانتزاع تغييرات في موقف العدو، إلا أنها تصرّ على ارتكاب الخطأ نفسه، إذ تحاول الإيحاء للحكومة اللبنانية ولحزب الله بأنها الطرف الوحيد الذي يتحدث مع المقاومة مباشرة، غافلة عن أن لبنان والمقاومة آخر من يهتمّ لدور فرنسي في المنطقة وفي لبنان على وجه التحديد.
وفي الوقت نفسه، يركّز الفرنسيون على سبل إرضاء العدوّ من خلال مقترحات ومواقف تصبّ جميعها في خدمة أمن “إسرائيل”.
وسبق أن سلّم لبنان الفرنسيين، منتصف آذار الماضي، ردًا رسميًا على ورقتهم الأولى تضمّن رفضًا لمقترحاتهم التي لا تلبي مصلحة لبنان في وقف الاعتداءات “الإسرائيلية” وانسحاب العدوّ من الأراضي المحتلة وضمان وقف الخروقات، وأكّد الفرنسيون يومها أن ورقتهم مجرد أفكار مطروحة للنقاش. لكنّهم عادوا وأرسلوا ورقة لا تختلف في جوهرها عن الورقة السابقة، بقيت في إطار توفير الضمانات التي تناسب العدو، ما يدفع إلى الاعتقاد بأن موقف لبنان منها لن يختلف في جوهره عن موقفه من الورقة الأولى.
حزب الله الذي تسلّم نسخة عن الورقة الجديدة قرّر مواصلة استراتيجية الصمت وعدم الدخول في نقاش حول ما يريد فيها من أفكار ومقترحات، وأبلغ الفرنسيين في اجتماعات مباشرة بأنه غير مستعدّ لأي نقاش قبل وقف الحرب على غزّة، وأنه منفتح على أي نقاش في ما خصّ الوضع جنوبًا بعد ذلك.
لكنّ الفرنسيين، حاولوا هذه المرة، بالتعاون غير المباشر مع الأميركيين والبريطانيين، الضغط على لبنان الرسمي والسياسي تحت عنوان “ضرورة فصل جبهة لبنان عن غزّة”، وجاراهم الرئيس ميقاتي في الأمر قليلًا، متعمّدًا إظهار تمايزه في لقاء أخير مع نواب من لجنة الشؤون الخارجية. غير أن ميقاتي كما الرئيس بري، أكدا للجانب الفرنسي أن لبنان يرحب بالدور الفرنسي، وأن الأساس يبقى إنهاء الحرب على غزّة كمدخل واقعي للبحث في حل مع لبنان.
علمًا أن فرنسا كرّرت خلال الأيام الماضية أن ما تطرحه قابل للتعديل متى ما جرت الموافقة على المبدأ.
يشار إلى أن لبنان تسلّم رسميًا الورقة الفرنسية التي أُعدّت بنسخة فرنسية تُرجمت إلى الإنكليزية ووُزّعت على الرئيسين بري وميقاتي والوزير بوحبيب إضافة إلى قائد الجيش وحزب الله.