أعاد الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله تثبيت معادلة توازن الردع في إطار المواجهة مع الكيان الصهيوني، بتأكيده أن “كيان الاحتلال يحسب ألف حساب للبنان بسبب المقاومة، والعالم يرسل الوفود بسب الجبهة الجنوبية.”.، موضحًا أن “هذه التجربة اليوم ثبّتت موازين الردع وأثبتت أن لبنان لديه قوة رادعة”، إلا أنه أضاف إليها بعدًا جديدًا مرتكزًا على مبدأ التقابل والتناسب، فحوّلها إلى معادلة تكافؤ الردع الذي يستبطن عنصري التطوّر والارتقاء، ويمتاز بسمة العقاب ولا يقف عند حدود الردّ.
والملفت في خطاب السيد خلال الاحتفال التكريمي الذي أقامه حزب الله للجرحى والأسرى المقاومين لمناسبة يوم الجريح المقاوم، التشديد على مبدأ “التكليف الشرعي” المنطلق من العقائد والثوابت الدينية الإسلامية، ليقول إن كلّ ما يفعله حزب الله يندرج ضمن منظومة إسلامية دينية تأخذ بعين الاعتبار الرضا الإلهي، وتراعي المبادئ الأخلاقية السامية في سياق الفعل وردّ الفعل، ولا علاقة لها بالحسابات الدنيوية التي غالبًا ما تكون منطلقة من حسابات مصلحية ضيقة ومحدّدة الأهداف والنتائج، بخلاف “الأخلاقيات” الصهيونية والغربية التي تشرّع جرائم القتل والإبادة والتدمير من منطلق التفاوت الطبقي في سلّم الإنسانية.
رد العدوان قاعدة إلهية
يدفع هذا التأمّل في خطاب السيد نصر الله إلى ارتقاء الفكر نحو الرؤية القرآنية للقضية في بعض ما أوردته من الآيات الشريفة، حيث يقرّر الله تعالى: ﴿وَٱلْحُرُمَٰاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ﴾ (سورة البقرة، الآية ١٩٤) وهذه الآية ترسم حدود التقابل بتماثل الفعل وردّ الفعل على قدر المستوى والحجم، إلا أن حقيقة المسألة متّصلة أيضًا بقاعدة إلهية تميّز الطيب من الخبيث والمؤمن من الكافر والظالم من المظلوم والمعتدي من المعتدى عليه، وهي التقوى (واتقوا الله)؛ وهذه دعوة صريحة من الله تعالى إلى عدم تجاوز حدود الفعل إلى ما يفوقه أو يتدنّى عنه، فرد الاعتداء يكون بالمثل ووفق الموازين الأخلاقية والمعايير الإنسانية، وضمن حسابات تبرز رقيّ الإسلام بأحكامه الحربية والسلمية على حد سواء، ليس فقط إزاء العدوّ أو الخصم المعتدي، بل إزاء أهل العدل والمظلومية، فلا إسراف في القتل والقتال بل المواجهة على قدر ما يقرّره التكليف الشرعي، لينعموا بالاطمئنان والأمن من مكر الظالمين.
وبشر الصابرين
وفي السياق ذاته تندرج الآية الشريفة ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ﴾ (سورة النحل، الآية 126)، ومدار البحث هنا متعلّق بـ “العقاب”، وهذا المصلطح متعلّق عمومًا بمبدأ المحاسبة على فعل صادر يستوجب النهر والتأديب بالقول والفعل، فتارة يكون العقاب لفظيًا، وطورًا يكون تطبيقًا يتناسب مع العمل المُرتَكَب، وهذه المعاني ظهرت بشكل جلّي في مواقف السيد نصر الله حين أكد أنّ “من يُهدّدنا بالتّوسعة في الحرب نُهدّده بالتوسعة.. ومن يتصوّر أن المقاومة في لبنان تشعر لو للحظة واحدة بخوف أو ارتباك فهو مشتبه ومخطئ تمامًا ويبني على حسابات خاطئة”..، على أن حقيقة المسألة أيضًا في هذه الآية متّصلة بالصبر، والذي يقرنه الله تعالى بالبشرى للمؤمنين، ليؤكد هنا خيرية النتيجة وربطها بإرادة الصابرين، فإذا صبر المؤمنون فهو خير لهم وإنْ لم يصبروا فلا خير لهم في ذلك، لذلك قال الله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (سورة البقرة، الآيات 155، 156، 157)
المقاومة مسؤولية شرعية
يذهب الفكر القاصر، ذاتيًا أم مفتعلًا، دومًا إلى تركيب معاني الكلام بما يُفهم منه على ظاهره، ووفق الخلفيات التي تحكم النظرة إلى الكلمة دون الإمعان في التجرّد والوقوف عند ناصية الحقيقة، ومثال على هذ القصور ترجمة المواقف – خصوصًا مواقف السيد نصر الله – على نحو التوهين والتشكيك، ومحاولة إظهارها على أنها نوع من التكتيك، في حين أنها مبنيّة على قاعدة التكليف الشرعي الذي يحكم القضايا وأبعادها، ويتجاوز حدود التمذهب الديني وتطيّف الانتماء على قاعدة دفع الظلم، وهنا تسقط الحواجز الطائفية في سياق المواجهة – وهي ساقطة في مفهوم المقاومة ومبادئها وأهدافها وأدائها الميداني – فلا فرق بين سني وشيعي ولا بين مسلم ومسيحيى في إطار رد العدوان الصهيوني الذي يؤمن بعقيدة القتل ويعتنق دين الإرهاب، لذلك يشدّد السيد نصر الله على أنه “في جبهتنا اللبنانية نحن منسجمون مع إنسانيتنا ومع قيمنا الأخلاقية ومع مسؤوليتنا الشرعية والدينية ويجب أن نُعدّ للقيامة جوابًا، وفي هذا لا تأخذنا لومة لائم”.
تكليف محور المقاومة
قد تثار إشكالية حول دائرة هذا التكليف الشرعي وحدوده المتوازنة، وهل تسري التزاماته على ساحة الصراع مع العدوّ الصهيوني؟ فلا تكافؤ ولا تناسب في المعطى الديني لدى الطرفين، فهل ينفع مثل هذا الخطاب مع عدو لا يقيم وزنًا لهذه الالتزامات من منطلق عقيدته الإجرامية؟ والجواب هو أن “التكليف الشرعي” تحدّده المصلحة العامة وليس الخاصة، وهي التي تحدّد الموازين التي يُبنى عليها الموقف والفعل، ولا حصر هنا لجبهة دون جبهة أو رقعة جغرافية معيّنة، فالمقاومة الفلسطينية بفصائلها الإسلامية وغير الإسلامية، كما “أنصار الله” اليمنيون يتّبعون القاعدة نفسها، وتظهر ترجمتها في الأدبيات الدينية الإسلامية في المواقف التي يطلقها السيد عبد الملك الحوثي، وكذلك تفعل فصائل المقاومة في العراق، كما الجمهورية الإسلامية الإيرانية وسائر قوى محور المقاومة، وما يمكن أن ينطبق عى جبهة فلسطين قد لا ينطبق بتمام تفاصيله وتجلّياته على جبهة لبنان أو اليمن أو العراق أو إيران، ولكنها كلها جبهات تتجّه وفق إطار عام هو مواجهة الاستكبار وقوى الظلم والهيمنة والتوسع، والتي تقودها أميركا وربيبتها “إسرائيل” والحلف الغربي التابع لها.
وإن عدتم عدنا
كل ما سبق لا يعني أن المقاومة قد أغلقت على نفسها أبواب المبادرة، أو وضعت في يديها قيد “ردّ الفعل”، فإن التكليف الشرعي يقضي بمجاهدة أهل الكفر والطغيان حيثما وجدوا في الأرض حتّى يفيئوا لأمر الله، حيث يقول تعالى: ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾ (سورة التوبة، الآية 12)، ويدعو إلى عدم الركون إلى الظلم دون خوف أو وجل، ﴿لَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (سورة النساء، الآية 104)، وهذا ما ترجمه سماحة السيد حسن نصر الله بتأكيده على “أن المقاومة اليوم أشدّ يقينًا وأقوى عزمًا على مواجهة العدوّ في أيّ مستوى من مستويات المواجهة”، وتهديده وزير الحرب الإسرائيلي بـ”أن يدرك أنّه إذا شنّ حربًا علينا فإنّه سيكون لديه مليوني نازح من الشمال وليس مئة ألف”، وأضاف “إذا نفّذ العدوّ تهديداته ضدنا عليه أن يدرك أن المئة ألف الذين غادروا الشمال لن يعودوا”، فإن الزمن الذي نتلقّى فيها الاعتداء دون ردّ قد ولّى، ونحن قادرون على أن نؤلم العدوّ في موقع الألم المؤثر الذي يجعله يخضع لنا ولإرادتنا، بصمود أهلنا وبسالة مقاومينا والتمسّك بسلاحنا الذي يهابه العدو، حيث يقول الله تعالى: “﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً﴾ (سورة النساء، الآية 102) فالاحتمالات مفتوحة حسبما يقول السيد نصر الله، و”نقاتل في الجنوب وعيننا على غزّة.. وعندما يتوقف العدوان على غزّة سيتوقف إطلاق النار في الجنوب”. أما إذا استمر العدوان وتوسّع فهناك حسابات أخرى، ﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ (سورة الإسراء، الآية 8)
المصدر: العهد