تغيب مشاهد العدوان الصهيوني على لبنان عن شاشة العديد من القنوات المحلية، ولا تمرّ عليها سوى “رفعًا للعتب” المهني وبأسلوب يقارب ذلك الذي قد يُذاع به خبر اقتراب حوت أزرق من شاطىء على جزيرة مهجورة.
تغيب هذه الأحداث المفصلية والمروّعة عن أولويات النشر لدى عدّة قنوات، ويُمرّ عليها باقتضاب وبلغة معادية، رغم كونها باتت تشكّل أخبارًا أولى في الإعلام العربي والعالمي لأسباب كثيرة وإن كان بعضها ليس حميدًا.
أما بعد، ما هي الأسباب التي قد تدفع قناة محلية إلى تغييب الخبر المحلّي عن لائحة تغطياتها ومهام مراسليها الذين من المفترض أن واجبهم المهنيّ والإعلامي هو تغطية ومتابعة الأحداث الهامّة في البلاد، ولا سيّما إن كان الحدث هو تعرّض قسم من البلاد للقصف الهمجي وللاعتداءات المتكرّرة والقاتلة؟ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يُختلق لهذه القنوات عذر مهنيّ؛ فالأمر يتنافى ليست فقط مع أخلاقيات المهنة التي اعتادوا على تجاوزها، بل يتعارض مع الواجب الوظيفي، على اعتبار أن وظيفة الإعلام، نظريًا على الأقل، هي نقل الخبر وفق ترتيب أولويات محدّد.
في الحالة اللبنانية بشكل خاص، يبدو النقاش النظريّ والمبدئي في مقاربة العمل الإعلامي كلامًا عقيمًا لا ينطبق للأسف على الواقع، منذ أصبحت معظم الوسائل الإعلامية أدوات صريحة وواضحة يستخدمها المعسكر المعادي وتعمل وفق أجنداته من دون أن تمتلك حتّى حرية إبداء الاعتراض وإن بعد التنفيذ. ولذلك، يكفي لعوكر أن ترسل تعليمة من كلمة واحدة، “التعتيم”، فتلزم القنوات المستخدمة لديها بتغييب الخبر الجنوبي والمشهد الدامي، خوفًا من أن تُلزمها المشاعر الإنسانية بالإقرار بحق المقاومة.
من جهة أخرى، بنت هذه المحطات طيلة السنين الماضية كلّ سردياتها الإعلامية وخطّها السياسي على معاداة المقاومة وبيئتها وسلاحها ورموزها. وكلّ عرض للعدوانية الصهيونية هو في الواقع اعتراف منها بصوابية خيار المقاومة، مهما شوّهت أو اعتمدت التضليل والكذب في خطابها الإخباري ومهما مرّرت من مفاهيم صهيونية خلال تغطية الوقائع.
وعليه، لم تعد تمتلك إلّا تغييب المشهد، وتجاهله، وفي مكان ما التعامل معه وكأنه أمر مشروع؛ ففي الحرب، لا وسطية في المواقف ولا مناطق محايدة، وفي اللحظة التي تتأخر فيها عن إدانة قتل عائلات جنوبية، إذا سلّمنا جدلًا أنك تعجز عن نعي الشهداء المقاومين إذ إن هذا يحرجك ويعرّي ارتهانك، أنت تعلن قبولك ورضاك عن هذا القتل، مهما غاليت بعد حين في المحاضرة بحقوق الإنسان ونبذ العنف والإرهاب. وحين تتأخر عن نصرة دم الأطفال المسفوك، ولو بكلمة، أنت حتمًا تناصر من سفكه، ولا حضيض أقذر من هذا وأحطّ.
حتّى أيّام قليلة، قُبيل السابع من تشرين الأوّل/ أوكتوبر، دأب بعض الإعلام على المزايدة على أهل المقاومة، بالمقاومة! ودليله كان تغطياته لمجريات الحرب في تموز ٢٠٠٦. صمت هذا الصوت المزايد منذ صباح الثامن من تشرين، تاريخ دخول جبهة لبنان إلى المعركة، دفاعًا عن غزّة وفلسطين، كي لا يقول له قائل “أين أنت من المقاومة اليوم؟”، بغضّ النظر عن امتلاكه لوقاحة المجادلة والمزايدة حتّى حين يكون مفضوحًا بعجزه التام عن أداء أي دور مناصر للمقاومة، بل مفضوحًا بارتباطه الوظيفي والاستعبادي بكلّ ما ومن يعاديها.
على كلٍّ، رغم ويلاتها وقسوتها، تشكّل الحرب محطة لا يمكن للمرء أن يمارس فيها أي رياء، كلّ ما يصدر عنه ينطق بالمعسكر الذي التحق به. والقاعدة هذه تنطبق حكمًا على الإعلام، الذي لم تروّعه مجزرة النبطية ليل أمس، ولم يدفعه دم الأطفال إلى الخروج عن “التعليمة” ولم تُستنهض فيه ذرّة من حسّ وطنيّ أو أخلاقيّ أو إنسانيّ أمام مشهد البحث عن ناجين تحت أنقاض شقة سكنية، كانت قبيل العدوان بلحظات بيتًا تجتمع فيه عائلة. لا عتب، حتمًا لا عتب ولا مساءلة ولا استغراب، لكنّها محطة جديدة ينفضح فيها هذا الإعلام بتبعيّته، ويتفوّق على نفسه في بلوغ الحضيض بالمعيار الأخلاقي والمهنيّ على حدّ سواء.