يُدرك نتنياهو جيداً أنّ عليه أن ينقل ساحة المداولات والجدل والمواجهة حول التهم الثلاث المنسوبة إليه؛ وهي الرشوة والفساد وخيانة الأمانة، خارج أروقة المحكمة إن أراد أن يدفع الشبهات عن نفسه بعيداً عن سياق الدُفوع الإجرائية القانونية المعهودة في مثل هذه القضايا، لذلك سارع إلى بدء “مرافعته” حولها مبكراً في المؤتمر الصحافي الذي عقده قبل يومٍ من الشروع في المداولات القانونية أمام المحكمة في “تل أبيب”.
وقد سَمحَ لثورة غضبه وحِدّيته أن تطال الصحافيين الذين اتهمهم بنسج الأكاذيب وترويجها حوله، ووجّه نقداً لاذعاً لوسائل الإعلام التي اتهمها هي الأخرى بالسعي للإطاحة به والإساءة لصورته داخل المجتمع الإسرائيلي، ولم ينسَ أن يعرّج على المؤسسة الأمنية والعسكرية التي اتهمها بمحاولة الإساءة المتكررة إليه.
كان من المهم بالنسبة لنتيناهو أيضاً، أن يربط في المؤتمر الصحافي المذكور بين الاستهداف الذي تتعرّض له “إسرائيل” “الدولة” من أعدائها من الخارج، وبين ما يتعرّض له هو شخصياً من خصومه السياسيين في الداخل.
وكأنه يريد أن يُثبّت في الوعي الإسرائيلي العام، في مرافعته الاستعراضية تلك، التي تنطلق من قاعدة السخرية من الأكاذيب والاتهامات “المفبركة” المنسوبة إليه، أنّ استهداف نتنياهو هو “استهدافٌ للدولة التي يدافع عنها ويقود حروبها المختلفة في ساحات متعددة”، وأنّ “جرَّ رئيس الوزراء إلى منصة الاتهام في أوج هذه الحروب المُستعرة لا يقل خطورة وأذىً على إسرائيل من استهدافها من قبل أعدائها من الخارج”.
هذا المقاربة التي يُقدّمها نتنياهو في محاولة للبحث عن مخرج انسحاب آمن من التهم الجنائية المنسوبة إليه، تُذكّرُ بشعار “الدولة أنا، وأنا الدولة” المنسوب للملك الفرنسي لويس الرابع عشر الملقب بـ “الملك الشمس”، الذي حكم فرنسا 54 عاماً، وهو بالتأكيد مصطلح سياسي أدبي يشير إلى الإستبداد السياسي عن طريق ربط مصير دولة ما برجل واحد فقط.
غير أنّ المعنى الأخطر لهذه المقاربة، هو أبعد من طبيعة اللحظة المتعلقة بالمحاكمة، وهو أنها حملت مضمون القفز على كلّ كيانات “الدولة” وعلى كلّ ما استقرّ عليه المجتمع الإسرائيلي من تنظيمات قانونية، ومن أحزاب ونقابات وهيئات، وقامت على تعظيم دور فرد وجعلِه في حالة تفويض مباشر من قُطعان اليمين الصهيوني المتشدّد، بشقّيه الديني والعلماني، من دون التزام بقواعد وأسس وقيم “الدولة” والمجتمع، بحيث يصبح نتنياهو فيها أعلى من كلّ مؤسسات “الدولة”.
إنّ خطر التفويض لنتياهو “الفرد”، من دون مفهوم ولا مضمون واضح للتفويض وإجراءاته وطرق مراجعته والتراجع عنه أو إنهائه، يُعمّق مخاطر القرارات والإجراءات ويفتحها على آفاق ديكتاتورية الفرد من أوسع الأبواب.
وفي الأصل هي تحوّلٌ بالغ الخطر يحل فيه الفرد محل الدولة والمجتمع ويصبح بديلاً لهما في إدارة السياسة والحرب والاقتصاد وتحديد ملامح الحريات ووسائل التعبير، وهو ما يفعله نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة الآن عبر الانقضاض على كل مؤسسات “الدولة العميقة” ومحاولة السطو عليها وتفتيتها لمصلحة ديمومة حكمه وسيطرته.
والواضح أن الخطر الآن يتخطى ساحة المُحاكمة والحرب والأسرى، إلى حالة مُهدّدة “للدولة” والمجتمع أو إلى كسر عظام “الدولة” والمجتمع وفتح المجالات لأشدّ الإجراءات والخطوات الفردية دكتاتورية إن استمرّ هذا الانفلات اليمني الفاشي.
ومن هذا المنطلق يصرّ نتنياهو على أن التهم المنسوبة إليه ليست ملفات قضائية جنائية البتة، بل هي “قضايا سياسية”، والاتهامات الموجّهة إليه هي “اتهامات سخيفة بكل بساطة” نَسَجها خصومه بهدف الإيقاع به ومن خلفه الإيقاع بـ “الدولة” وما حقّقه نتنياهو لها في معاركها المستمرة في مختلف الساحات.
ثم، “ألا يكفي أن نتنياهو مطلوبٌ للقضاء الدولي بعد أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في 21 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، مذكّرتي اعتقال بحقّه ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، بحجة ارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحقّ الفلسطينيين في غزة”!
وكأنه بهذه “البكائية” يرمي إلى استعطاف المجتمع الإسرائيلي وصرف أنظاره عن طبيعة الملفات المختلفة التي تُنسب إليه، وهو الذي يعلم بأن هذه المداولات التي يذهب إليها لا يجدي معها نفعاً خوض جدلٍ قضائيّ ودفع التهم عبر قرائن قانونية.
إنما عليه أن يخوضها في وسائل الإعلام والمؤتمرات الصحافية والبيانات الرنّانة، وأن يلفت الأنظار إلى جوانبها السياسية عوضاً عن الجوانب القانونية، وبالتأكيد من المهم أن لا يبقى الجدل حولها حبيس جدران وأروقة المحاكم.
هذه الخلفيّة في التعاطي مع “الدولة” ومؤسساتها المختلفة تسمح لنتنياهو بأن يكبح رغبة خصومه في “الدولة العميقة” من استمرار دفعه إلى المسار القضائي القانوني، عبرَ إثارة مخاوف المجتمع وتفزيعه من أن هذه المحاكمة في هذا التوقيت الحسّاس بالذات تضرّ أيضاً بأمن “إسرائيل”.
لأنّ نتنياهو ليس شخصاً عادياً بل هو رئيس وزراء “إسرائيل” ورأس النظام السياسي فيها، وهو الذي يخوض ويقود حروب “الدولة” المتعدّدة ليحميها ويدافع عنها.
ورغم المُحاكمة، بل في أوجها، يستمرّ نتنياهو “في إدارة الدولة والدفاع عنها مع أنها تحاربه”! فهذه “الدولة” ولا شكّ “ناكرة للجميل”، تستمرّ في ملاحقته قضائياً وإعلامياً للنيل منه عوضاً عن “أن تجزيه أجرَ” ما فعل لها بإسقاط التهم عنه كما فعلت الولايات المتحدة مع زعيمها ترامب!.
يؤكد نتنياهو، في هذه السردية، أن استمرار “الدولة” في جرّه إلى هذا المسار يعني بالنسبة إليه استمرار جرّ “الدولة” في حرب استنزاف مفتوحة عبر إشعال جبهات المواجهة واحدة تلو الأخرى إلى ما لا نهاية، وهو العارف المتيقن بأنّ “الدولة” التي استطاعت أن تقوده إلى منصة الاتهام في أوج الحرب بالتأكيد ستأخذه، إذا توقّفت الحرب، إلى هذا المسار حتى نهايته، حيث الإدانة وربما السجن.
لذا، فإن حروب نتنياهو الآن ليست حُروباً عن “إسرائيل” وأمنها، بل هي حُروبٌ عن “رأسه وحياته ومستقبله” ومن المهم بالنسبة إليه أن يستمرّ في تأجيج نارها، تحت شعار “أوقفت القتال لكنني لن أوقف الحرب”، وهو يعلم بأنه بهذا الشعار يخدم استمرار تجنيد مجتمعٍ إسرائيلي مرعوب وخائفٍ ومقموع خلفه وخلف حكومته.
خلاصة الأمر، رغم حضور نتنياهو جلسات المحكمة في يومين متتالين لمواجهة قضايا فساد وإساءة أمانة، لا يزال الرجل لاعباً أساسياً على الساحة السياسية الإسرائيلية، وبالتأكيد لن تمنعه هذه التحديات حتى الآن من الاستمرار في إدارة شؤون “الدولة” أو تؤدي إلى إزاحته عن السلطة، ومع علمه أن لويس الرابع عشر قد تراجع عن شعاره وهو على فراش الموت حيث قال “أنا سأذهب أما الدولة فستبقى”، إلا أنه يبدو أن نتنياهو يعتقد أن عمره أطول من عمر “الدولة” التي يحكمها ويُحكِم قبضته عليها.