لا تزال قضية «تسريب الوثائق السرية» تتفاعل في دولة الاحتلال، منذ الخميس الماضي، في ظلّ تصاعد الاتهامات لمكتب رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، بتعمّد اختلاس تلك الوثائق من قاعدة بيانات جهاز المخابرات (أمان)، لاستخدامها في التأثير على الرأي العام الإسرائيلي. وقد تكشّف، في اليوم الماضيين، أن القضية لا تقتصر فقط على «تسريب» الأوراق، بل «سرقتها» من «أمان» ووصولها بطرق «غير شرعية» إلى يد مقرّبين من نتنياهو، بغية تسريبها إلى الصحافة الدولية، بعد تحريفها على نحو يخدم الأخير بـ«إحباط أيّ صفقة تبادل (للأسرى)».
وقد بدأت القضية، التي يحقق فيها جهاز «الشاباك» منذ أيلول الماضي، بعدما نشرت صحيفتا «جويش كرونيكل» في لندن، و«بيلد» الألمانية، تقريرين استناداً إلى وثائق عسكرية سرية، تتضمن «تعليمات» مزعومة من قيادة حركة «حماس» حول كيفية إجراء المفاوضات بشأن الأسرى.
وبعدما سمحت محكمة «ريشون لتسيون»، التي أمرت بتخفيف حظر النشر عن القضية السبت الماضي، بنشر اسم المتورّط الرئيسيّ في القضية، ويُدعى إيلي فلدشتاين (32 عاماً) ويعمل متحدثاً باسم الشؤون العسكرية في مكتب نتنياهو، معلنةً أنه تم اعتقال 3 أشخاص آخرين مشتبه فيهم يعملون في المؤسسة الأمنية، أفادت وسائل الإعلام العبرية، أمس، بأن «الشاباك» اعتقل مشتبهاً فيه آخر للتحقيق معه في إطار القضية نفسها، وهو ضابط في الجيش، علماً أن «الشاباك» فرض الحظر على إمكانية الاجتماع بمحامي المشتبه فيهم.
وكانت المحكمة المشار إليها قد اعتبرت أن نشر الوثائق كان من شأنه ربما إلحاق «ضرر جسيم بأمن الدولة». وأضافت أنه «نتيجة ذلك، كان من الممكن المساس بقدرة الأجهزة الأمنية على تحرير الرهائن، كجزء من أهداف الحرب».
وشكّل اعتقال هؤلاء مدعاة للسخرية لدى عدد من الكتّاب الإسرائيليين، ومن بينهم الخبير الأمني، يوسي ميلمان، الذي قال إن المشتبه فيهم «يعملون في نفس الوحدة التي تتمثّل مهمّتها في تأمين المعلومات ومنع تسرب الأسرار»، لافتاً إلى أنه «تم تعيين الوحدة في البداية للتحقيق في تسريب المعلومات، ولكن في وقت لاحق جرى تحويل التحقيق إلى الشاباك».
وحول فلدشتاين، أفادت صحيفة «يديعوت أحرونوت»، التي كانت أوّل من تداول القضية المشار إليها، بأنه «بدأ حياته المهنية متحدّثاً باسم الجيش الإسرائيلي، ثم متحدثاً باسم دائرة الرقابة الداخلية، وبعد انتهاء خدمته العسكرية، بدأ العمل متحدثاً باسم رئيس حزب “عوتسما يهوديت”، إيتمار بن غفير، لكنه استقال بعد فترة وجيزة».
وأضافت أنه «بعد ثلاثة أسابيع من هجوم 7 أكتوبر، بدأ العمل في مكتب رئيس الوزراء، حيث تم تعيينه متحدثاً للشؤون العسكرية والأمنية باسم نتنياهو»، لافتة إلى أنه «خلال الأسبوع الثاني من الحرب، طلب مدير مكتب نتنياهو تعيين فيلدشتاين في مركز قيادة الطوارئ الوطني التابع لوزارة الدفاع، إذ كان وقتها عسكرياً احتياطياً».
وتابعت أنه «لمدة 3 أيام في منتصف أكتوبر 2023، عمل فلدشتاين في مكتب نتنياهو بدلاً من تقديم التقارير لمركز مقر قيادة الجيش، كما كان مقرراً. وبعدما أدركت وزارة الدفاع أنه لم يكن يؤدي المهام التي تم تجنيده من أجلها، طلبت إنهاء خدمته الاحتياطية».
وبحسب وسائل الإعلام العبرية، التي انشغلت على مدار الأيام الماضية بتحليل القضية، فإن الوثيقة الأولى المسرّبة التي تظهر أن الرئيس السابق لحركة حماس، الشهيد يحيى السنوار، والأسرى في غزة، سيتم تهريبهم من القطاع إلى مصر عبر محور «فيلادلفي» عند الحدود بين غزة ومصر، مزورة.
أما الوثيقة الأخرى التي قيل إنها مذكرة داخلية من قيادة «حماس» بشأن استراتيجية السنوار لعرقلة مفاوضات إطلاق سراح الرهائن، فقد صاغها في الواقع ناشطون في «حماس» لا يتولّون مناصب. من جهته، رأى الصحافي الإسرائيلي، رونين برغمان، في تحقيق لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، أن «إحدى مهام مكتب نتنياهو تمثلت في إقناع الجمهور الإسرائيلي بعدم وجود فرصة لإبرام صفقة تبادل أسرى»، لافتاً إلى أن «مكتب نتنياهو خلق رواية مضلّلة عبر مستندات قيل إنها سرية وجرى تلفيقها ونسبها زوراً إلى السنوار»، بهدف تنفيذ ما سمّاه «حملات لهندسة وعي الجمهور الإسرائيلي بشأن صفقة تبادل الأسرى»
وعلى المنوال نفسه، قال ناحوم بارنياع، للصحيفة نفسها، إن «ما يحاول نتنياهو ومؤيدوه تسويقه في إطار قضية الوثائق هو رواية كاذبة، وجوهر القضية لا يكمن في مجرد تسريب وثيقة سرية، بل الاستخدام الكاذب والملفق لمادة سرية لتضليل الرأي العام في مسألة حساسة تخص الحياة والموت (مسألة المحتجزين)».
انبرى المعلّقون الذين يوصفون بـ«حاشية» نتنياهو، إلى التحذير من «تنفيذ انقلاب» ضد الأخير
بدوره، اعتبر المحلل العسكري الاسرائيلي، يوآف ليمور، في صحيفة «إسرائيل اليوم»، أن قضية الوثائق تحوّلت إلى «سلاح سياسي»، معتبراً إياها «من أخطر القضايا التي عرفتها إسرائيل». وأضاف أن القضية «تثير الشكوك في أن مكتب رئيس الوزراء عمل على إحباط صفقة أسرى مما يتعارض مع أهداف الحرب. »وإذ يلفت إلى أن الوثيقة المسرّبة «خضعت للتلاعب، وتم تحريف محتواها عمداً»، فهو يشير إلى أن «هذه المعلومات جرى توزيعها بطريقة تلاعبية على صحافيين مختلفين في الكيان وفي جميع أنحاء العالم من أجل تعزيز مصالح نتنياهو، وكجزء من حملة عميقة تهدف إلى إلحاق الضرر بخصومه، بما في ذلك قادة المنظومة الأمنية».
وأضاف ليمور أن ما تقدّم «خطير وغير مسبوق»؛ وذلك لأنه «أولاً، يشكل نشر وثائق سرية من الجيش جريمة جنائية يعاقب عليها بالسجن لمدة طويلة. ثانياً، لأنه يُشتبه في أن مكتب رئيس الوزراء شارك فعلاً في التجسس داخل المنظومة الأمنية، في زمن الحرب. ثالثاً، بسبب توزيع هذه الوثائق.
رابعاً، لأن الحكومة حددت إطلاق سراح الأسرى كهدف رئيسيّ للحرب، والمنشورات المبنية على الوثائق (التي تم التلاعب بها) كان الهدف منها تخريب إمكانية الوصول إلى صفقة، أي أنها كانت مخالفة لقرار الحكومة». وبحسبه، كان لتسريب الوثيقة هدفان رئيسيّان: الأول، تقديم قيادة الجيش والمنظومة الأمنية على أنهما من تخفيان عن نتنياهو وحاشيته المعلومات، وتريدان بالتالي إلحاق ضرر برئيس الوزراء؛ والثاني، خلق الانطباع بأن «حماس» ليس لها مصلحة في الصفقة.
أما المحلل في صحيفة «معاريف»، بن كاسبيت، فاعتبر أنه «في حال ثبوت هذه الشبهات، سيكون على إسرائيل أن تعترف بأن مكتب نتنياهو قد تورط في اختلاس معلومات سرية مباشرة من قاعدة بيانات المخابرات لاستخدامها في التأثير على الرأي العام الإسرائيلي»، مذكّراً بأن نتنياهو عُرِف «بتورطه في تسريبات سابقة خطيرة، بما في ذلك “وثيقة شتاوبر” التي سرّبها أثناء تولّيه منصب زعيم المعارضة. ومع ذلك، لم تُوجّه إليه أيّ تهم رسمية في هذه القضايا».
في المقابل، انبرى المعلّقون الذي يوصفون بـ«حاشية» نتنياهو، إلى التحذير من «تنفيذ انقلاب» ضد الأخير. وانتقد أحد المعلّقين المقرّبين من نتنياهو، وهو يعقوب باردوغو، ما أثير بشأن تسريب الوثائق، قائلاً «إنهم يقومون بالسطو على سلطة التحقيق، والتنفيذ الانتقائي، وكل شيء من أجل الوصول إلى نتنياهو».
ورأى باردوغو أن «القوة التي من المفترض أن تحافظ على الحكم في إسرائيل تحاول خلق واقع جديد هنا».
وكان زعيم المعارضة، يائير لابيد، ورئيس «معسكر الدولة»، بيني غانتس، قد حاولا استثمار فضيحة التسريب.
وقال لابيد إنه «إذا لم يكن نتنياهو يعلم بأن مساعديه المقربين يسرقون الوثائق، ويعملون كجواسيس داخل الجيش الإسرائيلي، ويزوّرون الوثائق، ويكشفون مصادر استخباراتية، ويسرّبون وثائق سرية إلى الصحف الأجنبية من أجل تعطيل صفقة المختطفين، فماذا يعرف؟».
بدوره، قال غانتس إن الأمر «لا يتعلق بالاشتباه في حدوث تسريب، بل يتعلق باستغلال أسرار الدولة لتلبية الاحتياجات السياسية.
إن استخدام مواد استخباراتية أولية مأخوذة من دون إذن يتطلب التحقيق والتوضيح حتى النهاية. إذا سُرقت معلومات أمنية حساسة، وأصبحت أداة في حملة البقاء السياسي – فهذه ليست جريمة جنائية فحسب، بل هي جريمة وطنية».
أيضاً، اتّهمت عائلات الأسرى الإسرائيليين، نتنياهو، بأنه عمل على تزوير وثائق لإحباط أيّ صفقة تبادل.